(الشهيد الفنان عبد العزيز إبراهيم)
بعد عناء، حصل على علبة «أندومي». طبخها بمياه ملوّثة. عند اللقمة الأولى سقط الصاروخ، فارتقى شهيداً. حدث هذا في مخيم النصيرات.
■ ■ ■

عندما عاد من عملية بحث مضنية عن مياه، وجد عائلته أشلاء ممزّقة متناثرة بين الركام. حدث هذا في دير البلح.
■ ■ ■

أثناء إشعاله شمعة داخل الخيمة، ارتجفت يداه، ليس خوفاً إنما بسبب القصف. النتيجة أن الخيام القريبة منه تحوّلت إلى محرقة. خرج يساعد في الإطفاء ونقل الجرحى والشهداء، فكان صديقه أحدهم مع عائلته. هو طفل لا يتجاوز العشرة أعوام، وصديقه كذلك. حدث هذا في المواصي.
■ ■ ■

اتفق مع أقرانه على بيع المعكرونة. هي جزء من مساعدات وصلت قبل قليل. السبب: نحتاج إلى شراء خيمة حسب ما قالت له أمه. باعوا الجزء الأول، فذهب لجلب ما تبقّى من عند أمه. في الطريق، باغته القصف وغاب عن الوعي. استيقظ في المستشفى فاقداً يده وبعض الشواكل، هي ثمن المعكرونة. حصل هذا في رفح.
■ ■ ■

نزح مع عائلته من شمال قطاع غزة إلى جنوبها. اعتقله الاحتلال، فاختفى 150 يوماً. أفرجوا عنه منهكاً، فأخبروه أن عائلته استشهدت وبقي له طفلة وحيدة تعيش مع عائلة أخرى. فتمنى لو أنه بقي في «سيد تيمان».
■ ■ ■

قالوا له إن حليب الأطفال مقطوع تماماً. زوجته لم تعد تستطيع إرضاع طفلها بسبب الخوف وعدم التغذية الجيدة. استعاضا عن ذلك ببعض الماء واليانسون. بعد أسبوعين توفي الطفل جوعاً. دفنوه أمام البيت. إحدى قصص مخيم الشاطئ.
■ ■ ■

حمل والده جريحاً. وصل إلى المستشفى وهو على قيد الحياة. بعد يومين، حمله مجدداً لأنه فارق الحياة: لم يكن هناك دواء ضغط وسكري ومضادات حيوية. لم يمت من الإصابة. مات من النقص الحاد بالأدوية.
■ ■ ■

طلب منهم الاحتلال عبر منشورات، إخلاء مدرسة وكالة «الأونروا». وقبل هروبهم، حاصرتهم الدبابات. تحولت ساحة المدرسة إلى بحيرة دماء وجثامين شهداء. وبعد انسحاب جيش الاحتلال، فتّش عن نجله بين الجثامين، فوجده. أخذه ليكفّنه، وإذ به تحرّك. أكثر من 48 ساعة وهو بين الموتى، ففقد النطق. وقع ذلك في حي الرمال.
■ ■ ■

لا تحتاج إلى سماع القصص الكثيرة والمكثّفة لأهالي قطاع غزة. يكفي أن ترى المشاهد، لتدرك أن المحرقة المستمرة، تنتج جيلاً يخفي في نفسه حقداً يتحول مع الوقت إلى ثأر حتمي. ويُرجح أن يحمل جيل «الطوفان» ما يمكن وصفه بالغل. وهذا ما أكّده كهل فلسطيني في غزة عام 2014، في فيديو انتشر حينها، يقول للصحافيين: «هذا الطفل فقد والده وشاف كل الي بصير، بعد 10 سنين حيعمل قنبلة نووية ويضربهم فيها». وبالفعل من نفّذ عملية «طوفان الأقصى» هم جيل عاش جرائم الانتفاضة الثانية وعدوان 2008 و2012 و2014. فكيف سيكون الجيل الحالي؟
وبالفعل، ما نحتاج إليه هو الغلو في الغل، وتحويله إلى أيديولوجية قبل السلاح والخطط العسكرية. نحتاج إلى الغلو في الغل، أي العداوة المتأصلة المتغلغلة في القلب. هذه العداوة أكثر من حقد، لأنه يجب أن تصاحبها رغبة في الثأر لدرجة إنهاء العدو من الوجود.
وإن كان ابن منظور يُعرّف الغل بأنه «إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها»، ففي الحالة الفلسطينية يجب الإفصاح بالعداء والعمل على الثأر يومياً، فرادى وجماعات. وهذا الغل موجود في الضفة الغربية والقدس وفي نفس كل فلسطيني، فالتنكيل بجثامين الشهداء، كما حصل في قباطية، أو البصق وإهانة المصلين والمصليات في القدس، أو إجبار النساء على خلع ملابسهن في الخليل (حدث هذا قبل «طوفان الأقصى» بأيام)، أو سرقة الأرض أمام أعين أصحابها، أو إجبار الفلسطيني على هدم بيته بيده؛ كلها أفعال الاحتلال اليومية. هم يقتلوننا بكل ما يملكون من أدوات. يقتلوننا بسفك دمنا وإحباط عزيمتنا، وكسر هيبتنا، ومنعنا من تحقيق أهدافنا السياسية والوطنية. وأمامنا الاستكانة والقبول والعمل كعبيد عندهم، أو المقاومة وشفي الغليل بعد كل هذا الغل.
نعم، علينا أن نحقد ونختزن الكثير من الغل لنهزمهم. ولعل ما يقوله الكاتب عبد الرحمن منيف في رواية «شرق المتوسط» يلخّص الفكرة: «أريدك أن تكون حاقداً وأنت تُحارب. الحقد أحسن المعلمين. يجب أن تحول أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، أما إذا استسلمت للحزن فسوف تُهزم وتنتهي، سوف تُهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية».