... وحين ذهب موسى وهارون إلى فرعون يطالبان بالحرية لقومهما رفض واستكبر وعاند حد الغطرسة. لم يستسلم موسى، وتابع نضاله بمعجزاته وانتقم الإله ممن يعتبر نفسه إلهاً. ويسجل «سفر الخروج» ضربات متدرجة لفرعون، هي المعجزات: العصا تتحول إلى أفعى، اليد الصحيحة تصير برصاء، الماء تتحول دماً. هنا الواقعة هجمات متبادلة بين فريقين، ففعل سحرة فرعون الخوارق العجيبة تقليداً لـ«كليم الله» قبل أن يسحقهم رب موسى.
(تيسير بركات)

يلي ذلك، الهجمات المتصاعدة: الضفادع، البعوض، الذباب السام، الوباء، القروح، البرَد بالحبات الكبيرة، الجراد، والظلمة. وأخيراً تأتي الضربة ما قبل الأخيرة، وهي الإنباء بموت أبكار قوم فرعون ومن ضمنهم ابنه أي «الإله» القادم، وهذا كان انتقاماً مشابهاً لبدء القصة، حيث سبق أن اتخذ فرعون السابق قراراً بقتل أبناء قوم موسى الذكور، وبقية الحكاية معروفة، كيف وصل الطفل إلى قصر الحكم قبل أن يتحول إلى مطالب بحقوق شعبه. هكذا يتسع إحساس رفض الهزيمة والثأر عند فرعون من موسى وربه، فيلحقه بجيشه المدجج حتى تبتلعه أمواج البحر، فكان الطوفان الكبير.
■ ■ ■

ما الوصف الحقيقي لمعركة غزة وجبهات الإسناد، ولا سيما أنه اختلط فيها النموذج التقليدي الكلاسيكي بحرب الشوارع واجتياح المدن؟ هنا يمكن إطلاق وصف «معركة الأمواج» باعتبار أن الهجوم يواجه بالهجوم. هي أمواج قتالية بدأت بالزحف في 7 تشرين أول، تبعتها أمواج الاحتلال بمراحل مختلفة، لتصبح المواجهة شاملة. ثم تخلت المقاومة عن تشكيلاتها الأساسية كجيش منظم لديه وحدات متكاملة، لتخوض حرباً غير نظامية بالمفهوم العملي. هنا التحرر من الجغرافيا والعقد الدفاعية الأساسية، ليكون استنزاف العدو هو الأساس بغض النظر عن الكيفية والآلية.
من أخطاء المقاومة الفلسطينية في لبنان قبل الاجتياح عام 1982، هو تكوين تشكيلات أشبه بالجيش الكلاسيكي، حتى أن القائد ومعه الجمهور صدّقوا أن للفلسطينيين جيشاً يشبه جيوش الدول. لذلك، وضع أرئيل شارون خطته على أساس أماكن معسكرات وقواعد الثورة الفلسطينية، ثم المخيمات ونقاط القوة. لكن حين حوّل الشهيد سعد صايل تكتيكات المواجهة وأسلوب الدفاع، صمدت بيروت، وكانت الخسائر الإسرائيلية فادحة. أما بالنسبة إلى غزة، فكانت المرونة أسرع في تغيير الأولويات، وإعطاء حرية في القرار للقادة الميدانيين في دراسة الموقف وتقديره لطريقة المواجهة أو الانسحاب، ولكن القرار النهائي هو إبقاء الأمواج القتالية في الهجوم، إن كان أثناء التوغل أو حينما يفكر العدو في تثبيت قواته.
هكذا، الصورة الأشمل للمعركة هي أمواج نارية، وآليات عسكرية للعدو تتوغل مع غطاء سلاحَي الجو والمدفعية، تقابلها أمواج المقاومة المنطلقة من الأنفاق أو من البيوت المدمرة، مع استخدام الكمائن كسلاح دفاعي لإعاقة التقدم، ثم العبوات الهجومية والهاون والقاذفات اليدوية وأهمها «الياسين 105». وتثبت «معركة الأمواج» المستمرة، أن التراشق بالنار محدود جداً، لأن العدو يمتلك قدرة نارية أضخم وأوسع، ولمواجهة ذلك نرى المد والجزر في الهجمات: انسحاب ثم هجوم، أو هجوم ثم انسحاب. فالهدف الأساسي هو بقاء تدفق الأمواج، لتصبح حرب استنزاف يخسرها العدو ميدانياً وسياسياً وإستراتيجياً.
أما أمواج جبهة الإسناد اللبنانية واليمنية والعراقية، وكذلك في الضفة، فهي أشبه بالتيارات البحرية. فإذا كان العامل الرئيسي المسبب للأمواج هو اصطدام الرياح الموجودة على السطح بالماء، فالمسبب للتيارات المائية هو اختلاف درجات الحرارة. وتعتمد جبهات الإسناد الاشتباك المباشر في الضفة ولبنان من مسافات قريبة، ولكنها في العراق واليمن تعتمد الاشتباك البعيد المدى، وأبعاده تحمل أضراراً اقتصادية وعسكرية وضغطاً دولياً أكثر وأكبر. وهذه المعركة إذا اتسعت ولا سيما عند الجبهة اللبنانية، سنجد أمواجاً بشرية من دول مختلفة تتقدم نحو الحدود، ولن يكون ارتطامها بفلسطين المحتلة إلا دماراً لدولة الاحتلال ومستوطناته.
صحيح أن «معركة الأمواج» عسكرية بالمقام الأول، ولكن لها طابع شعبي وسياسي، إن كان بالتظاهرات، أو بقرارات محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، أو باعتراف الدول الغربية بدولة فلسطينية، وكشف وجه الاحتلال الحقيقي والعمل على نزع شرعيته الدولية. هذا كله يجعل بنيامين نتنياهو يشبه فرعون، حين تغطرس وتوجه إلى حتفه بإرادته. وإذا ظن نتنياهو، أن إطالة الحرب لمصلحته، فهو العكس تماماً. فالمقاومة قادرة حالياً على رص صفوفها بتجنيد مقاتلين جدد، وتصاعد المواجهة في الضفة أو لبنان يعني الطوفان الكبير، حيث يغرق نتنياهو وجيشه، ويلقى حتفه الحتمي. ومن المثير، أن صنّاع القرار في دولة الاحتلال، يرون ذلك بأعينهم ويحذرون منه، ولكن نتنياهو يصرّ على الاستمرار بالغطرسة، ومعه طائفة كبيرة من داعميه في الداخل والخارج. وهنا المفارقة، إذا اعتبر نتنياهو نفسه آخر «ملوك إسرائيل» مستخدماً الدين والأساطير، كيف يصدقه أتباعه؟ ولعل ما قاله الأديب نجيب محفوظ، في روايته «ثرثرة فوق النيل»، ينطبق عليه: «لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله».
ستستمر «معركة الأمواج» وإن توقفت لأيام أو أسابيع. فالأمواج تتلاحق وإن خفّت سرعتها أو قوتها. ويثبت مسارها أن يقرر مصير الشعب الفلسطيني، ولكنه يقرر مصير إسرائيل كدولة متماسكة، ومصير نتنياهو كفرعون متغطرس يغرق حالياً في غزة، ولن يجد من ينقذه.