نداء نداء، لمن يسمع أو يرى، من أمّة فقدت مكوّنات الكرامة والرجولة والإباء. نداء نداء، إن إسرائيل الدخيلة على مكوّنات أرضنا وتاريخنا، تستبيح دمنا، وتهتك سكون ليلنا بوقاحة قلّ نظيرها، بينما الصمت العربي والدولي يمارس رياضة صمت مريب، معبّراً عن خيانة القيم الإنسانية والقومية. إنّ غزة اليوم وجنوب لبنان يشكّلان متراس الدفاع الأول عن كرامة الأمة وصدّ أحلام الغزاة بالتوسّع، وهذا محال. ستؤكلون تباعاً تباعاً، وغزة لا تطلب منكم تحريك الجيوش، فقط أوقفوا نفطكم، لتأتي أوروبا الوقحة صاغرة لكم. نداء نداء، هل تفعلون قبل الفوات؟هذا النداء كتبه وأرسله لي صديقي الشاعر سليم النفار، الذي «أدهشني» بمعنوياته العالية، وببقائه في حي النصر، الذي لم يغادره كما قال لي: باقٍ في مكاني، لا أخاف المجرمين الهمج.
ظل سليم النفار في حي النصر حتى استشهاده في 7 كانون الأول الجاري، مع عائلته. ومن مكانه المحاط بالدمار والنار، وأصوات الوحوش المعدنية من طائرات ومدافع ودبابات. أرسل النداء إلى العرب، وهو يعلم وأعلم مثله بأنهم لن يفعلوا شيئاً، لأن لديهم أولويات مختلفة، مع تقديرنا المشترك لحاجتهم القصوى إلى فعل شيء ما للحفاظ على ما تبقّى من إنسانيتهم وعروبتهم الممزّقة.
وهم كما تعلم يا صديقي، أصبحوا يعتبرون الشجاعة تهوّراً، والجبن حكمة. ولذلك يلجأون، من منطلق رفع العتب، إلى تناول القضية الفلسطينية في اجتماعاتهم وبياناتهم العادية والطارئة من الجانب الإنساني، ويردّدون كالببغاوات قديمهم وجديدهم، الحديث عن المبادرة العربية وحل الدولتين. هذه المبادرة هي الوهم الذي يساعد كيان المذابح على المزيد من الاستيطان والتهويد، وإطفاء مصابيح كنيسة القيامة والمسجد الأقصى وكل فوانيس الأمل على أرض فلسطين.
ونحن معاً يا صديقي بقلوب ساخنة وأنظار شاخصة، ننتظر وقفاً لإطلاق النار، وهو آت لا محالة، لتعلن غزة انتصارها، ونهوضها مجدداً من تحت الركام إلى أفق جديد، من أبرز ملامحه الداخلية، الخروج من الثنائية الفصائلية إلى الوحدة الوطنية الشاملة، التي تعني تحمّل المسؤولية، تجاه الأرض والإنسان الفلسطيني المقاوم والمكافح من أجل الرغيف، ومن أجل الخلاص من الاحتلال.
صديقي العزيز: أتذكر الآن بتوقيت القذائف والرصاص في غزة، كل الأحاديث التي دارت بيننا في مخيم الرمل الفلسطيني في اللاذقية في سوريا، قبل دخولك إلى غزة، باعتبارها أرض الحلم، ومحطة على طريق العودة إلى يافا وبحرها. فهي لم تكن بالنسبة إليك حقيبة أو راتباً شهرياً أو منصباً حكومياً، كما تعامل معها بعض المثقفين المدمنين على مغادرتها والسفر بعيداً عنها، وعن الواقع والأحلام.
وأنت كما أنت، اخترت كما في كل حرب، البقاء في غزة، التي يريدها الاحتلال أن تصبح أضيق من قبر. وأنا الآن مثلك، ينتابني البكاء في الليل، مع كل ارتفاع لعدد الشهداء الأطفال أصحاب الضحكات الوارفة في العيون والذاكرة.
وأرجو منك يا صديقي وقد رحلت، أن لا تنسى وصاياهم في قصائدك الجديدة، التي ستكتبها بحبر الروح، وأنين غياب الخبز والماء. وأرجو منك أن لا تنسى وأنت تكتب على ورق القهر والجمر، ما قلته للناس وطلاب المدارس في قصيدة «أحبائي»:
«جنون الشر لم تسحق مرامينا
فعطر الحق في غامض الشريان
مدفوناً هنا فينا
لو طالت مسالكنا
ولو جنت مآسينا
على مهل سيأتينا».
وأنا الآن مثلك، رغم قسوة الجغرافيا والحصار والحرب، أشم رائحة الحق والنصر القريب. وكل يوم، أنتظر منك من غزة صباح الخير، لأهنّئك بالصبر والسلامة. وكما كل حديث متقطّع بيننا بسبب انقطاع الكهرباء والاتصالات، أؤكد لك كما كنت تؤكد لي أننا لن نفقد الأمل، رغم حرب الإبادة. ومصيرنا أن ننتصر وأن نستقلّ وأن ننال الحرية، وأننا سنبقى معاً نحلم بعكا ويافا والقدس، حتى ينقطع النفس.