مِن أسرى غزّة مَن لم يُعلن استشهادهم بعض السجون لم يزرها محام

دانا فرّاج، محامية وباحثة في «معهد مواطن للديموقراطية وحقوق الإنسان» في جامعة بيرزيت، وهي طالبة دكتوراه في القانون الجنائي الدولي في جامعة بورغندي في فرنسا. تتحدّث في هذه المقابلة عن واقع الأسرى الفلسطينيين بعد حرب 7 أكتوبر والخطوات التي تحتاجها قضيّتهم محليّاً ودوليّاً

منذ 7 أكتوبر، يعايش الأسرى في سجون الاحتلال عقاباً جماعياً انتقامياً يكاد يكون غير مسبوق، بحكم عملك كمحامية وشاهدة على ما يحدث في السجون، ومتابعة للقضية: كيف تصفين هذا الواقع، وما هو أخطر ما يتعرّضون له؟
في ما سبق إطلاق حركة المقاومة الفلسطينية عمليّتها «طوفان الأقصى»، تحتجز دولة الاحتلال الإسرائيلي في سجونها ما يقارب 5200 أسير/ة ومعتقل/ة سياسي/ة فلسطيني/ة. كان من بين هؤلاء ما يقارب 170 طفلاً، و1260 معتقلاً/ةً إدارياً/ةً؛ أي إنهم معتقَلون ومعتقَلات من دون تهمٍ أو محاكمة.
وبعد السابع من تشرين الأول، شنّت دولة الاحتلال عدداً كبيراً من حملات المداهمة والاعتقالات في المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ اعتقلت عشرات الفلسطينيين/ات يومياً، حتى بلغ العدد الإجمالي للاعتقالات في الضفة الغربية، بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 3700 حتى الآن (9 كانون الأول 2023).
وقد صدرت تقارير متعدّدة عن المؤسّسات الحقوقية الفلسطينية والدولية، إضافة لعدد من المقالات تفيد وتوثّق قيام دولة الاحتلال بفرض إجراءات تنكيلية وتعذيب ممنهج، وإيقاف جميع الزيارات العائلية وزيارات الصليب الأحمر بشكل كامل، ومنع زيارات المحامين واختصارها واقتصارها على بعض السجون، كما سُحبت جميع الحقوق والإنجازات التي كان قد انتزعها الأسرى على مدى عقود من النضال تخلّلها الإضراب عن الطعام والعصيان ومقاطعة المحاكم العسكرية.
كما اعتُقل فلسطينيون من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وتشير تقارير أخرى إلى أن آلاف العمال والمواطنين والمقاومين الغزيّين قد تم اعتقالهم أيضاً، وأصدرت سلطات الاحتلال بحقّهم أمراً باعتبارهم «مقاتلين غير شرعيين»، وهو ما يسمح لها احتجازهم لمدّة غير مسقوفة بأجل ومن دون محاكمة عادلة.
يصف الأسرى اليوم الظروف في السجون الإسرائيلية بأنها مماثلة لتلك في عام 1968، فقد فُرضت قيود مشدّدة على إمكانية الحصول على الماء والغذاء، وتم إغلاق مقاصف الأسرى ومصادرة معدات الطهي، وبالتالي اقتصار وجبات الطعام على تلك التي تقدّمها مصلحة السجون، وقطع الكهرباء. وتخلّلت سلسلة المداهمات العنيفة لزنازين الأسرى مصادرة جميع ممتلكاتهم الشخصية والجماعية، مثل الأجهزة الكهربائية والأحذية ومعظم الملابس وأدوات التنظيف، بالإضافة إلى تقليل وقت خروجهم إلى «الفورة» لمدة أقل من 15 دقيقة (الفورة هي الساحة الخارجية في القسم – خارج الغرف، ويقدّرها البعض بـ 18*10 متراً)، أو حرمانهم منها بشكل عام في بعض السجون، ومنع اختلاطهم مع أسرى من زنازين وأقسام أخرى.
يتعمّد الاحتلال استخدام سياسة الترهيب، انطلاقاً من مبدأ العقاب الجماعي، والعمل على ردع أي فكرة أو محاولة أو جرأة للمقاومة ولو كانت حتى في أبسط الأشكال، إذ يُمعن في نشر الفيديوهات التي توضح حالة العنف والإجرام المُمارس ضد الأسرى والأسيرات الفلسطينيين/ات داخل السجون الإسرائيلية، كما يتلذّذ بترهيب الأسرى والأسيرات وردعهم عبر إرغامهم/ن على مشاهدة أو سماع أسرى وأسيرات آخرين/أخريات رفاق ورفيقات لهم/ن يتم التنكيل بهم/ن. ووصلت الحملة القمعية المروّعة ضد الأسرى والأسيرات إلى التحرّش الجنسي اللفظي والتهديد بالاغتصاب.

تمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي «الصليب الأحمر الدولي» من زيارة الأسرى، بحجة أنه غير قادر على زيارة الأسرى الإسرائيليين في غزة. هل هذه حجة قانونية سليمة في رأيك؟
يخضع الأسرى الفلسطينيون لأنظمة مصلحة السجون الإسرائيلية منذ عام 1967، والصليب الأحمر يقوم بالزيارة وفقاً لتفويضه ومهماته بحسب القانون الدولي، كون الحالة الفلسطينية-الإسرائيلية مصنّفة دولياً على أنها حالة احتلال، وبالتالي الأسرى الفلسطينيون يفترض أن يتم التعامل معهم وفقاً لاتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة.
يُعدّ الصليب الأحمر جهة محايدة ودولية، ولديه مهمات واضحة، منها زيارة السجون والاطّلاع على ظروف الأسر. وفي حال عدم السماح له، يجب أن يخرج إلى العلن، ويوضّح أن سلطات الاحتلال تمنعه من الزيارات، بخاصة بعد مرور أكثر من شهرين على منعه من الزيارات بشكل كامل، والتصريح من قبل دولة إسرائيل، عبر الإعلام، بأن مطالبات الصليب بزيارة الأسرى الفلسطينيين هي «مطالبات وقحة».
حتى الآن، لم يقم الصليب الأحمر بتغطية ظروف السجون، ولم يصدر، بحسب ما نشره عدد من أهالي الأسرى، سوى «بيان واحد، مختزل خجول غير شامل لأوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال»، ولم تتم إدانة القمع والحالة التي شبّهها العديد من الأسرى، سواء عبر شهادات المحامين أو شهادات الأسرى المحررين ضمن صفقات التبادل، بما كان يحدث في سجن أبو غريب وغوانتانامو، ولم يتم الحديث عن ظروف استشهاد ستة أسرى داخل السجون، في أقل من شهر.
وعلى موقع الصليب الأحمر، ضمن الأسئلة المتكررة عن «عمل اللجنة في إسرائيل والأراضي المحتلّة»، نجد إصراراً وصراحة في الحديث عن أوضاع «الرهائن» الإسرائيليين. على سبيل المثال، تشير إحدى الإجابات المنشورة على موقع الصليب الأحمر حول الأسرى الإسرائيليين:
«لا شك أن الأنباء التي ترد عن أسر أشخاص أو احتجازهم تملأ القلب كمداً. والزملاء في غزة وفي إسرائيل وحتى في أماكن أخرى لا يألون جهداً في الاتصال بالسلطات المعنية التي تحتجز مواطنين إسرائيليين ورعايا بلدان أخرى تعسفياً. مطلبنا واضح وضوح الشمس: نريد أن نتواصل معهم، أن نقيّم احتياجاتهم، وأن نعيد الاتصال بينهم وبين أُسرهم. لا بدّ من إطلاق سراح جميع مَن أُخذوا رهائن، ويجب أن يُعامَل المحتجزون معاملةً إنسانية».
تستمرّ سلطات الاحتلال باحتجاز جثامين 17 شهيداً من شهداء الحركة الأسيرة


هذه الصراحة، والحزن المنقطع النظير، والمطالبة الدؤوبة من قبل الصليب الأحمر للنظر بظروف احتجاز الإسرائيليين، والمطالبة بتحريرهم، ليست مألوفة عند الحديث عن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين (المقدّر عددهم بمليون شخص منذ احتلال أراضي عام 1967)، ولم نجد أي إشارة إلى 7800 أسير فلسطيني حالياً، من بينهم 2873 معتقلاً إدارياً (من دون تهمة أو محاكمة).
وجدير بالذكر أن هناك تضييقات، تاريخياً، من قبل سلطات الاحتلال على الصليب الأحمر، تمنعه من القيام بدوره، وقبل أحداث السابع من تشرين الأول، ولم ينجح الصليب، على مدار عقود الاحتلال الطويل الأمد، بإلزام دولة الاحتلال أن تحترم القانون الدولي الإنساني، لا من ناحية دوره كمنظمة إنسانية ولا من ناحية احترام المعايير الأخرى.
يجب أن يشار إلى أن «الصليب» يُمنع من زيارة كل أسير يخضع للتحقيق والتعذيب النفسي، وأحياناً الجسدي، قبل مرور 14 يوماً على اعتقاله. وإذا كان الأسير ممنوعاً من لقاء محاميه، يُمنع «الصليب» أيضاً من لقائه، حتى لو امتدت المدّة إلى 75 يوماً كل مدة التحقيق. و«الصليب» على دراية وعلم بممارسة التعذيب بشكل منهجي في سجون الاحتلال، والسؤال هنا ماذا يفعل في هذا الصدد؟ أيضاً من أهم أدوار «الصليب» هو توصيل المعلومات بين أفراد العائلة التي شتّتتها حالة الاحتلال: فكيف يقوم الصليب بهذا الدور حالياً؟ إضافة إلى أن هناك مئات المعتقلين من غزة منذ السابع من تشرين الأول، ولا تبلغ إسرائيل «الصليب» عن أماكن احتجازهم وظروفه.
دولة الاحتلال تمسّ بدور «الصليب» بشكل منهجي منذ عقود، وهناك ازدواجية في المعايير، ولا يحقّ لها المطالبة الآن بأن يمارس «الصليب» دوره «بموضوعية».

أكدت شهادات المفرج عنهم الممارسات الانتقامية الجارية حد القتل العمد لعدد لا ندري إن كان مرشحاً للارتفاع، هل من وسيلة للاطمئنان على سلامة الأسرى المتبقين ولا سيما من يعانون وضعاً صحياً حرجاً؟
في خضم الحملة الإسرائيلية ضد الأسرى، استشهد ستة أسرى فلسطينيين داخل السجون، في أقل من شهر، عُرف منهم: عمر دراغمة 58 عاماً، الذي كان معتقلاً إدارياً في سجن مجدو، وعرفات حمدان 25 عاماً، الذي كان معتقلاً في سجن عوفر، وعبد الرحمن أحمد محمد مرعي 33 عاماً، استشهد في سجن مجدو، والمعتقل ماجد أحمد زقول 32 عاماً، من قطاع غزة، والأسير ثائر أبو عصب، المعتقل منذ عام 2005، واستشهد نتيجة الضرب في سجن النقب، وأسير آخر من غزة لم تُعرف هويته بعد. وبحسب شهادة أحد المحامين، هناك عدد من أسرى غزة الذين استشهدوا أثناء الاعتقال ونتيجة التعذيب ولم يفصح عنهم بعد. إضافة لذلك، تستمرّ سلطات الاحتلال باحتجاز جثامين 17 شهيداً من شهداء الحركة الأسيرة.
في ظل منع زيارات «الصليب»، وزيارات الأهل، وفي ظل الهجمة الشاملة المسعورة على الأسرى، لا توجد وسائل للتواصل مع الأسرى إلا عبر الأسرى المحررين أو الأسرى الذين يتم اعتقالهم بشكل يومي، بالعشرات، وكذلك زيارات المحامين – والتي تأتي بعد مماطلات وتنكيل بالمحامين، والتي مُنعت في الأسبوع الأول من أحداث السابع من تشرين الأول، حالياً، زيارات المحامين، المحدودة للموقوفين فقط، هي وسيلة التواصل الوحيدة، وفي العدد الأكبر من السجون يتم إعطاء الموافقة لزيارة المحامي بعد أسبوع أو أسبوعين من تقديم الطلب، وإلغاؤها أو إعلان حالة الطوارئ في السجن في لحظة الزيارة، وبالتالي منعها. وهناك بعض السجون التي لم يزرها المحامي بتاتاً مثل سجن ريمون.
كما أنه تمت مصادرة أجهزة الراديو والتلفاز، والتي كانت تُعدّ وسائل بسيطة للتواصل مع العالم والأهل والأحبة، أي إنّ الأسرى اليوم في عزلة تامة.

ما الجهد القانوني والحقوقي خارج فلسطين من حول العالم الذي تحتاجه قضية الأسرى وواقعهم اليوم؟
اليوم، أثبت القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان والأخلاق الدولية، فشلها أمام ما يعايشه الفلسطينيون كل يوم، سواء في غزة، التي تواجه إبادة دموية وحشية، أو في الضفة الغربية والقدس، وكذلك تكميم أفواه فلسطينيي الـ 48، والأسرى في السجون الإسرائيلية. كما أخفق المجتمع الدولي، في ظل قرارات الفيتو الأميركي المتكررة، والتي تمنع وقف الإبادة الجماعية في غزة. اليوم لا نتحدث عن منع وقوع الجرائم أو المحاسبة عليها فقط، بل نتحدث عن إيقافها بشكل فوري. ولكن:
• يجب الاستمرار والمتابعة في ما يتعلق بالتحقيق أمام محكمة الجنايات الدولية، ومراقبة عمل المدّعي العام، والضغط في سبيل محاسبة المجرمين.
• ومن المهم أن يتم تقديم الشكاوى للجهات الدولية المختصة مثل لجنة مناهضة التعذيب، ومختلف اللجان التابعة للأمم المتّحدة والمنبثقة عن المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان، وذلك من قبل المحامين الدوليين والحقوقيين، بخصوص حالات التعذيب، واستشهاد عدد من الأسرى نتيجة التعذيب وسياسات الإهمال الطبي.
• يجب الضغط على الصليب الدولي للقيام بمهماته تجاه الأسرى الفلسطينيين، والمطالبة علناً في إعادة زيارة السجون، وإدانة ما يحدث داخل السجون أمام العالم.
• ويجب استكمال العمل في التوثيق وكتابة التقارير حول انتهاكات حقوق الأسرى، وتقديم الشكاوى أمام لجان حقوق الإنسان المختلفة، ولجان العمل الخاصة بالأمم المتحدة، مثل لجنة العمل الخاصة بالاعتقال الإداري.
• ختاماً، يجب استمرار التضامن والتظاهر الدوليَّين، والضغط على الحكومات المتواطئة مع دولة الاحتلال، والتي تقدّم الإمدادات العسكرية والمالية، والضغط على المؤسسات الدولية التي اتّخذت مواقف معادية للشعب الفلسطيني وحقّه في مقاومة الاستعمار والتحرّر وتقرير المصير.

المحامية والباحثة في «بيرزيت»