يُقال إنّ في السؤال الجيد نصف الإجابة، لذا، سأبدأ هذه المقالة بعديد من الأسئلة التي تنطلق من فحوى الإجابة عنها، ومن ضرورة التساؤل في سياق قراءة جيدة للمرحلة وضرورة ربطها بالمسار الطويل الذي خاضته المقاومة الفلسطينية حتى لحظتها التاريخية، الآن.كيف يمكن للفلسطيني أن يصمد مقابل كل هذه الوحشية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها في غزة، وعلى امتداد ترابه منذ احتلاله حتى الآن؟
لماذا لا يرضخ الفلسطينيون ويقبلون بتقاسم وطنهم مع كيان الاحتلال الذي يمنّ على سلطتهم بالفتات؟ ويتخلّون عن الفكرة والنهج والعقيدة والاستقلال؟
وما سرّ هذه البلاد حتى يتشبّث بها أهلها بدمائهم، ولا يهاجرون أو يذوبون حيث هُجّروا وسمّوهم لاجئين متحدين مع حقّهم بالعودة إلى فلسطين؟...
أسئلة تُطرح في اليوم الواحد آلاف المرات وفي هذا الوقت بالذات، الذي نشاهد فيه صور المذابح والإبادات على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تنقلها مباشرة أمام أنظار العالم.


وأعود بالتاريخ إلى حقبة المناضل الشهيد عز الدين القسام الذي أبى الاستسلام حين حاصرته قوات الاحتلال البريطاني مع مجموعة صغيرة من الثوار في أحراج يعبد في جنين عام 1935. لماذا لم يوافق على الاستسلام وأصرّ على خوض معركة وهو يعلم يقيناً أنّها خاسرة سلفاً، ولا سيما أنّ الفارق في ميزان القوة كان واضحاً، وأنّه ومجموعته الصغيرة بأسلحتهم البدائية وتدريبهم البسيط لن يستطيعوا الصمود لأكثر من بضع ساعات قبل أن تحسم المعركة لمصلحة قوات الاحتلال البريطاني المتفوّقة عدداً وعدة؟
هل كان يعلم أنّه بموته سيفجّر ثورة 1936 أو ثورة القسّام، والتي امتدت إلى الأراضي الفلسطينية كافة، واستمرت لثلاثة أعوام؟
وما الذي دفع المجاهد القائد عبد القادر الحسيني بالعودة إلى القسطل بعد احتلال القوات الصهيونية لها؟ وخوضه معركة خاسرة لا محالة؟ ولماذا أقدم على اتخاذ القرار الذي كلّفه حياته مدافعاً عن القسطل بعدما حررها من القوات الصهيونية التي تمركزت فيها؟
ماذا عن باسل الأعرج، الذي أمضى حياته يبحث في سِيَر الثوار والمتمردين، فاتخذ القرار نفسه عند توافر ظروف مشابهة، ورفض الاستسلام حينما حوصر في الشقة التي كان يختبئ فيها بعيداً عن أعين الاحتلال وأعوانه، وقرر التصدي وحيداً وبسلاح فردي للقوات الخاصة الصهيونية التي فجّرت الشقة قبل دخولها؟
وما الذي دفع بإبراهيم النابلسي إلى الاشتباك مع وحدة القوات الخاصة التي حاصرته هو وأحد المقاومين في نابلس القديمة، والذي أدى إلى نهايتهما التي رسمت استراتيجية الاشتباك الجديدة في الضفة؟

الجهاد في وصايا الشهداء
ربما نستطيع تتبع وصايا هؤلاء الشهداء للحصول على الإجابات الشافية لهذه الأسئلة، لكن من المهم الالتفات إلى مسألتين: الأولى، الأرضية التي انطلق منها هؤلاء الأبطال على تنوّع خلفياتهم الفصائلية والاجتماعية وحتى الثقافية وأعمارهم أيضاً، وصولاً إلى قرار الاشتباك. والثانية، البحث في جدوى هذا القرار المصيري الذي اتّخذوه بالاشتباك والمقاومة حتى النهاية.
نقل الزعيم الاستقلالي الحيفاوي رشيد الحاج إبراهيم - الذي كان القسام آخر من رآه في حيفا واستمع إلى وصيته - التي جاء فيها: «إنّي واثق من نفسي وإنّ صوتي سيجد صداه في كل مكان عند أول صيحة ونستودعك الله، راجين من المولى تعالى أن يوفّقنا بأعمالنا في سبيل الوطن».
لا أستطيع أن أهتدي إلى جواب، غير أنّ هذا القرار بالمواجهة الخاسرة ما هو إلا رسالة للجميع بالثورة المسلحة، وبأنّها الطريقة الأنجع في مقارعة الاستعمار، وأنّ المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد للتحرر من عدوّ لا يفهم إلا لغة الحديد والنار. كانت هذه الرسالة بمثابة إعلان للثورة التي جاءت كنوع من الاستجابة الطبيعية للفعل البطولي الذي أقدم عليه الشهيد عز الدين القسام.
أما القائد عبد القادر الحسيني، فيمكن الاستدلال إلى خلفية قراره بالدخول إلى «القسطل» من خلال رسالة وجّهها إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية وتقول: «إنّي أحمّلكم المسؤولية بعدما تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح».
من الواضح أنّ الشهيد الحسيني اتّخذ قراره بالمواجهة لفضح المتخاذلين وإثبات وجهة نظره بإمكانية النصر لو تحقّقت الشروط.
بالمقابل، ترك الشهيد إبراهيم النابلسي وصيته في تسجيل صوتي تداولته وسائل التواصل، والتي أعلن فيها عن استراتيجية المواجهة في الضفة الغربية: «من شان الله يا شباب لا تتركوا البارودة».
أما الشهيد باسل الأعرج فقد ترك وصية واضحة ومباشرة للإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر، فكتب يقول: «وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟ وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أنّ ما أقعدني عن هذا، هو أنّ هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم؟، فلتبحثوا أنتم».
إنّه سؤال الأحياء الذي يجب أن يُثار. إنّه دعوة الأحياء للتفكير في هذا السؤال. إنّه دعوة مباشرة للقتال وخوض الحرب حتى لو كانت خاسرة طالما أنّها ستفضي في النهاية إلى النصر.

رومانسية الدم
يحاول باسل الأعرج إعطاءنا أجوبة أكثر عن هذا السؤال في الرسالة التي خطّها تحت عنوان: «لماذا نذهب إلى الحرب؟».
تبدو الإجابة التي قدّمها باسل الأعرج مذهلة من حيث تكثيفها للفكرة والأبعاد الفلسفية التي تضمّنتها. إنّها الرومانسية. فالإنسان يذهب للتضحية بنفسه من أجل إشباع رومانسية البطل بداخله وهكذا الشعوب. الرومانسية هنا تأتي من الاصطدام بواقع الاستعمار ومحاولة تجاوزه إلى التحرر. وهناك أيضاً انطلاق من الداخل إلى الخارج أو من الفرد إلى المجموعة. فالرومانسية التي يتحدث عنها باسل في رسالته ليست رومانسية فردية أو رومانسية خيالية، فهي تدعو إلى مواجهة الواقع، وأن يقدّم الفرد نفسه ليحرّض الآخرين على الحلم بالبطولة وتخطي الواقع من خلال مواجهته. وهي لا تتجاوز الراهن، حيث إنّ ثمنها يُدفع بالدماء سلفاً. ولكنّها تغيّر المستقبل، فهذا الفعل الرومانسي يبقى أثره وجدواه مستمرين حتى التحرر.
لا رومانسية بمفهومها التقليدي هنا. فهي ليست قصة حب أو مغامرة لاكتشاف المجهول بل هي رومانسية عمادها الدم، تصطدم بالمستعمر وتضربه في نقاط الضعف على مدى متكرر حتى إنهاكه وإضعافه ودحره في النهاية.
ليست رومانسية فردية ولا بطولة فردية، بل هي رومانسية شعبية تبحث عن خلاص الشعوب المضطهَدة والمستعمَرة بشكل جماعي.
وليست رومانسية غير واقعية، بل على العكس من ذلك هي نابعة من الواقع المهين الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام ولكنّها تجرأت على رفضه والسعي لتغييره من أجل التحرر من كل أشكال الاحتلال والاستعمار والاستيطان والقمع. واقعية حالمة لخّصها إرنستو غيفارا بعبارته الشهيرة: «فلنكن واقعيين ونطالب بالمستحيل».
أما عن جدواها المستمرة، فها نحن اليوم نتحدث عن مقاومة جماعية بدأتها المقاومة في غزة وتجرأت فيها على الرومانسية الجماعية كتائب أخذت من عز الدين القسام دليلاً لها. وأصبح الاشتباك حتى النصر دستورها وأطلقت صاروخ العياش والباسل والياسين ليعود هؤلاء الشهداء من قبورهم حاضرين في المعركة، ومستمرين بالاشتباك. سمع مناضلو الضفة وصيّة النابلسي والعموري واستمروا بالاشتباك وتحوّلت المقاومة إلى ظاهرة جماعية في جنين ونابلس والخليل وطولكرم.
وصار اسم الشهيد تامر الكيلاني (مُصنّع العبوات) يُقلق الكيان الصهيوني مع كل عبوة ناسفة تستهدف آليات الاحتلال ودورياته في شوارع الضفة.
تلك هي رومانسية الحرب التي تحدّث عنها باسل الأعرج، والتي اتّخذتها غزة كخيار استراتيجي في الحرب المفتوحة التي أعلنتها على الاحتلال من خلال خطاب قائد الجناح العسكري في كتائب عز الدين القسام - الجناح العسكري لحركة حماس - محمد الضيف، والذي أعلن فيه رفض الواقع الحالي وكل اتفاقيات الخنوع وتجرّأ فيها جرأة الأبطال الرومانسيين على الانقلاب عليه جماعياً.
هذه ليست المرة الأولى، كما أسلفنا، فتاريخنا الفلسطيني مليء بالشواهد على الجرأة ومعركة الكرامة كانت كذلك، كما قرار الصمود في بيروت عند اجتياح لبنان عام 1982، ومعركة جنين، وتحرير الجنوب، وكل حروب غزة وانتفاضة أطفال الحجارة والانتفاضة الثانية. كلها شواهد على حيوية الشعب الفلسطيني ومقاومته وقدرته المستمرة على الرومانسية والذهاب إلى الحرب.
*كاتب فلسطيني