حين أستعيد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تجتاحني صورٌ ومشاعر مكثّفة وقاسية، جعل منها الزمن ظلالاً رمادية قابعة في مغاور الذاكرة السوداء. هو العمر وكثرة التجارب وتراكمها في بلد سريع التقلّب، بركاني الأحداث، لا يمتلك مفاتيح غده كباقي دول العالم (وفي المقارنة ظلم وافتراء). أقول إنني كنت «محظوظاً» في صيف 1982، لأنني شهدت وعشت يومياً مأساة وبطولات وصمود المدنيين والعسكريين، أولئك الذين كُتب عليهم العيش على «حافة الموت» خلال حصار بيروت الغربية، الذي دام لأكثر من 80 يوماً.
استمر الناس في بيروت في معاندة الموت، بحثاً عن «غالون» ماء شرب، وربطة خبز وشمعة لسهرة الملجأ إذا تيسّرت. والمقاوم على خطوط المواجهة يصيب «تنين شارون» بجروح مؤلمة. شارون المتعطش للدماء، لم يفقد شهيته رغم القتل المجاني اليوم، فالْتَهم صينيّة كبة كاملة في ليلة كالحة في بكفيا! حصل ذلك والطائرات والبوارج والمدافع الإسرائيلية تدكّ بيروت المحاصرة ليلاً ونهاراً، من دون تمييز بين عسكريين ومدنيين، وليس هذا بجديد. كنت محظوطاً لأنني لم أحمل سلاحاً خلال الاجتياح، كنت طالب مدرسة غير حزبي، ولم يخضع لتدريب عسكري، فوجد نفسه متطوعاً في الدفاع المدني في الجبهة الموحدة لرأس بيروت التي افتتحت مركزاً لها في مدرسة «الروضة» لصاحبها الأستاذ قيصر حداد، وهو رجل فلسطيني متنوّر يؤمن بتربية الأجيال، كما أنه شقيق الشهيد وديع حداد.
لو حملت السلاح في ذلك الزمن المختلف بكل ما للكلمة من معنى، لاختلف مضمون هذه المقالة، لكان أكثر حدية وجدية، وربما، أكثر تطرفاً. فمن يعش تجربة الحرب ويدفع ضريبة الدم، ويكن على خطوط النار وأصوات انفجار القذائف، فليس كمثل من يشهد نتائجها، ولو كانت دماً على أجساد الضحايا، ويسمع تأوهات المصابين في سيارة الإسعاف، وأمام أبواب طوارئ المستشفيات.
كما يقال عندنا بالعامية «الحكي مش متل الشوف»، والزمن كان «يا قاتل... يا مقتول»، لن أفصّل في محاولة أخذ القارئ إلى الغارات الجوية الإسرائيلية التي كانت تقصف البلد وبيروت بلا رحمة، وأصوات طائرة «F16» الفضية، وهي تحلّق فوق الأبنية على علو منخفض، فتبدو كسمكة قرش جائعة خرجت من مياه البحر لتتحول إلى مخلوق طائر متوحش، يحصد القتل والرعب وسط المدنيين «المحشورين» في بقعة جغرافية ضيقة نسبياً سُمّيت «بيروت الغربية»، في حين كانت «بيروت الشرقية» تسهر وتفتح قناني الشامبانيا لجيش العدو الغازي وضباطه في نوادي السهر وملاهيه! (لا يمكن إدانة كل شعب تلك المنطقة على هذا الموقف، لأن هذا المسلك الكريه والممجوج، هو عادة لبنانية أصيلة تُمارس عندما يعتقد أحد شعوب البلد أن الجيش الغازي سوف يقلب الوضع لمصلحته).
لن أفصّل أيضاً في وصف القصف المركّز للبوارج الإسرائيلية على الأحياء السكنية، وكيف استشهد أهل بيروت والنازحون من لبنانيين وفلسطينيين في البيوت وفي الشوارع، ولا كيف ندرت المواد الغذائية في ظل حصار لا يرحم، لعب في فرضه — مع الأسف — أبناء البلد الواحد، دوراً مساعداً للعدو الغازي. جاعت الناس، فصارت تأكل وتشرب ما ندر وجوده من معكرونة مسلوقة وأرزّ وعلب تونة. لقد تحوّل الملجأ إلى مكان إقامة شبه دائم لسكان الأبنية والجوار. العائلات كانت تفترش الأرض في أجواء رطبة وحارة جداً، وتحاول النوم على وقع أصوات القصف في الخارج. كان صراخ النسوة وبكاء الأطفال يرتفع كلما أصابت قذيفة بارجة مبنى أو شارعاً سكنياً. في تلك الأوقات الكالحة، لا كهرباء في بيروت، لا ماء في بيروت، ولا بنزين. الشوارع تكاد تخلو من السيارات، ما عدا العسكرية وسيارات الإسعاف وأكوام النفايات.
الموت مجاني على طرقات بيروت، وغربان سوداء تحوم في سماء العاصمة. في وجه كل هذا، كان هناك صمود بطولي جبار على خطوط الجبهة، والكوفية لا تسقط. جريدة «السفير» كانت تنقل لنا كل صباح أخبار المعارك وتطورها، وصورة الوحش شارون مختالاً بإنجازاته على الأرض التي ما كان ليحققها لولا انقسام «الشعوب» اللبنانية إلى طوائف. وكاريكاتور الشهيد ناجي العلي، كان فرحي وتأملي بالغد، وكان «فشة خلقي».
رمى الرفش جانباً، ونزل إلى الحفرة وأخذ يشتغل بيديه العاريتين، كان يأمل باكياً بالعثور على ابنته حية


ليس سهلاً استعادة أجواء الاجتياح والعدوان الإسرائيلي ونحن اليوم في عام 2023. عليّ أن أحاول نسيان تداعيات تراجع الوضع اللبناني بعد 2005، وإفلاس الطبقة السياسية الحالية وفسادها. وعليّ أن أحاول نسيان تداعيات جائحة «كورونا»، والانهيار المالي العام ونهب الدولة (عذراً على التعبير) لأموال المودعين، وانفجار 4 آب شبه النووي، وزلزال تركيا وسوريا وهروب الناس إلى الساحات والشوارع، والحروب التي ضربت العالم العربي من العراق إلى ليبيا وسوريا واليمن وأخيراً السودان، والحرب الشرسة المستمرة على الشعب الفلسطيني داخل فلسطين، كأنه غير محسوب على جنس البشر! عليّ أن أغض الطرف عن الأحوال المعيشية الصعبة والمستحيلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في المخيمات عندنا (مخيم عين الحلوة محاط بسور بيتوني عالٍ كأنه سجن رومية، ومخيم شاتيلا يكاد يختفي عن الخريطة!). عليّ أن أتقبّل تهمة «ترف» الوطنية و«ليك وين بعدو» في زمن الطوائف والمذاهب ومشاريعها الإلغائية، كي أستعيد بعض تجاربي الشخصية خلال اجتياح 1982 للبنان وحصار عاصمته.
ارتديت ثياب الدفاع المدني: «تي شيرت» بيضاء وبنطلون عسكري وبوط أسود. يفرح شاب بعمر 18 سنة ولو في الحرب بهذا «اللوك» الجديد! كذلك فعلت شلة الحي من الأصدقاء. تدرّبنا على عمليات الإسعاف والحماية الشخصية خلال القصف وفق معايير الصليب الأحمر الدولي. لم نكن انتحاريين ولم نرم بأنفسنا إلى التهلكة. تحول مركزنا في مدرسة «الروضة» إلى خلية نحل لتقديم الإسعافات والمساعدات العينية للمحتاجين والمهجرين، بغض النظر عن الجنسية أو الطائفة. قصفتنا البوارج الإسرائيلية بشكل مركّز ونجونا بأعجوبة. الكابتن غسان وغيره من القادة كانوا حريصين على سلامتنا وعلى القيام بالمهام بأقل خسائر ممكنة. بفضل سيارتي إسعاف قمنا بكل ذلك: الزرقاء كانت شغالة، أمّا البيضاء المعطوبة، فبقيت مركونة أمام المركز.
لبّينا النداء للمشاركة في إطفاء حريق اندلع في معمل حبال، اشتعل نتيجة القصف في منطقة عائشة بكار لجهة تلة الخياط. أمضينا النهار إلى جانب جهاز إطفائية بيروت وأجهزة متطوعين آخرين، محاولين القضاء على الحريق بلا نتيجة. أصابنا الإرهاق بسبب الدخان وحرارة الطقس والنيران. أحد شبابنا (كان لقبه «انقطاع») شرب عن طريق الخطأ من غالون كاز معتقداً أنه ماء، فنقله الرفاق إلى المركز لإسعافه. شاهدت أمي من على الشرفة ما يحصل في الملعب، فاعتقدت أن «انقطاع» المنقول على حمالة هو أنا. هرولت إلى المركز وهي في حال عصبية.
عايشت تجربة قاسية في منطقة الروشة. كان الطيران الإسرائيلي قد أغار على إحدى البنايات السكنية فدمّرها بالكامل. يبقى احتمال بقاء أحياء، وصلنا في الإسعاف الزرقاء برفقة الكابتن غسان وعدد من الرفاق للمساعدة في عمليات الإنقاذ والحفر، أملاً بوجود أحياء. ما صدمني كان مشهد أب يشارك في عمليات البحث والحفر. كان في حالة عصبية وتأثر شديد. رمى الرفش جانباً، ونزل إلى الحفرة وأخذ يشتغل بيديه العاريتين، كان يأمل باكياً بالعثور على ابنته حية.
الجندي الإسرائيلي وسخ، جبان وبلا قضية. بعد دخول جيش العدو إلى بيروت، طُلب منا البقاء داخل المركز، وعدم الخروج بأي عملية إسعاف. فبقينا في الملعب نتسلى بلعبة كرة السلة التي كان يتقنها معظمنا كطلاب مدارس وجامعات. فجأة ظهر وسط الملعب عدد من الجنود بسلاحهم الكامل. دخلوا من وراء حيطان الملعب، كان يصعب أن يعرف طريقها سوى أولاد المنطقة. دخلوا إلى الغرف والمكاتب، وفتشوا مبنى المدرسة رغم معرفتهم المسبقة أن المركز للدفاع المدني. كانوا في حالة رثّة، متعبين وواثقين وهماً بأنهم قد أتمّوا مهمتهم! قبل مغادرتهم، قرّر أحدهم أن «يتهضمن» فالتقط كرة عن الأرض وسدّد نحو السلة، ولم يحقّق هدفاً، وكذلك كان الاجتياح، كما يبرهن الزمن وتبرهن التجارب، والانسحاب السريع تحت ضربات عمليات جبهة المقاومة الوطنية «جمول».
كانت المرة الأولى التي أرى فيها جندياً إسرائيلياً، الثانية ستكون بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، وللحديث بقية.