شهدت السنون الأخيرة أمراً لافتاً من ناحية الحديث السياسي والقانوني والإعلامي عن «أبارتهايد» إسرائيل، أي ممارستها الفصل العنصري، بحق الفلسطينيين. وفي حين يعتبر البعض هذا التطوّر حجر الأساس في نضالنا بوجه العدوّ، يرى البعض الآخر أنه ليس سوى تعبير إضافي لوصف عنجهية العدوّ. فما حقيقة الأمر؟ ما هي مدلولات كلمة «أبارتهايد» القانونية، ما الأفق التي يفتحها، وما هي محدوديتها ومخاطرها المحتملة؟
ملصق لحركة المقاطعة ضمن فعاليات أسبوع مقاومة الاستعمار والابارتهايد

ما «الأبارتهايد»، وما القيمة من إدانة إسرائيل به؟
يشير الفصل العنصري، أو «الأبارتهايد»، إلى «أية أفعال لا إنسانية... تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام»، بحسب القانون الدولي العرفي ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. على هذا النحو، يشير هذا التعريف القانوني للأبارتهايد إلى ممارسات دولة لا إلى جوهرها. ومن اللافت أنه يُعَدّ قانونيّاً «جريمة ضد الإنسانية» بنظر الأمم المتّحدة.
لذا، من اللافت العدد المتزايد من الشخصيات والمجموعات التي أدانت إسرائيل مستعملةً تعبير «أبارتهايد» خلال السنوات القليلة الماضية، ومنهم مسؤولون في الأمم المتحدة كمايكل لينك وسول تاكاهاشي، وسياسيون غربيون كالنائبة البريطانية كلير شورت والرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، وسياسيون إسرائيليون بارزون كرئيس «الموساد» السابق ميئير داغان، وجمعيات إسرائيلية «كيش دين» و«بتسيلم»، وجمعيات دولية كـ«منظّمة العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش»، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا). وسنعود لدراسة تقارير هذه الجمعيات.
ولا شكّ في أن هذه التغييرات علامات فارقة في تاريخ الموقف الدولي المنحاز دائماً للعدوّ. فهي من جهة مؤشّر، ليس فقط على وعي سياسيين ومسؤولين مؤثّرين لممارسات إسرائيل العنصرية، لكن أيضاً لاستعدادهم أن يتخذوا موقفاً أجرأ منها، أي لتقديرهم أن موازين القوى تغيّرت بحيث لم يعد بإمكانهم السكوت عن الأمر. بدوره، إنّ استعمال وشيوع كلمة «أبارتهايد»، ببعده العاطفي المقرون بسياسات دولة جنوب أفريقيا العنصرية وبسقوط هذه الدولة، يؤثّر إيجاباً في تضامن شعوب الغرب، ومنهم أعضاء ومؤيّدو أحزاب حليفة للصهيونية، مع القضية الفلسطينية. ولا بدّ أن نشير هنا إلى إحصاء أُجرِي في الولايات المتّحدة في آذار 2023 ووجد أنه عدد أكبر من «الديموقراطيين» يتعاطف مع الفلسطينيين (49%) من مع الإسرائيليين (38%)، للمرّة الأولى في التاريخ. من ناحية أُخرى، إنّ أبعاد كلمة «أبارتهايد» القانونية قد تسهم في إدانة إسرائيل من قِبل المحكمة الجنائية الدولية ومؤسسات قانونية أُخرى.
تبشّر هذه التحوّلات التي يمكن وصفها بالإنجازات بتحوّلات مستقبلية قد تلعب دوراً محورياً في عزل إسرائيل دولياً و«هجرة عكسية» للغُزاة من فلسطين عودةً إلى بلادهم. لا نستغرب بالتالي غضب إسرائيل وجهودها لشطب هذه الكلمة من الخطاب السياسي المتعلّق بها، كإجبارها الأمم المتحدة على سحب تقرير الـ«الإسكوا» الذي أدانها بممارسة الأبارتهايد عام 2017 من موقعها الرسمي.
لذا، لا ينبغي أن نستخفّ بأهمية المعركة المتعلّقة بإدانة إسرائيل بالأبارتهايد. لكن علينا في الوقت نفسه أن نعي محدوديّة هذه المعركة وحتى إلى مخاطرها المحتملة.

محدودية المعركة ومخاطرها المحتملة
من ناحية أُخرى، نشير إلى ثلاثة مجالات ينبغي اتّخاذ الحذر فيها من محدودية ومخاطر خوض هذه المعركة. فأوّلاً، لا يغيب عن بالنا أنّ ما يُحدث فرقاً على أرض الواقع، حتى من ناحية تطبيق القرارات الدولية، هو موازين القوى، لا القرارات بحد ذاتها. وهذا يحثّ بشكل خاص في حالة إسرائيل نظراً لتاريخها الحافل بتجاهل القرارات الدولية. لذا ينبغي النظر إلى المعركة القانونية لإدانة إسرائيل بالأبارتهايد كإحدى ساحات المواجهة ضد العدوّ، من دون التغاضي عن ساحات المواجهة الأُخرى، ومنها المقاومة المسلّحة المشروعة والمقاومة الشعبية والمقاطعة والضغط السياسي وغيرها.
ثانياً، يشير تعريف الأبارتهايد إلى سعي «جماعة عرقية» للسيطرة على أخرى. إلا أن الزعم أن «اليهود» يشكّلون جماعة قومية هو زعم صهيونيّ. فعلى أرض الواقع، يهود العالم لا يشكّلون ديناً واحداً (فمنهم الملحد ومنهم من لا يعترفون بيهودية بعضهم) ولا إثنيّةً واحدة (فمنهم الأميركي ومنهم الأوروبي ومنهم الأفريقي ومنهم الشرق أوسطي ومنهم الصيني) ولا يتشاركون مساحة جغرافية واحدة. وخطر القبول بزعمهم القائل أنهم «جماعة قومية» هو، أوّلاً، خطوة تجاه الاعتراف بحقّ هذه «الجماعة القومية» في تقرير مصيرها وبالتالي الانزلاق نحو تثبيت قانوني لـ«حقّهم» في قرار العيش في دولة خاصة بهم في فلسطين، وثانياً القبول بالمنطق العنصري-الطائفي القائل بأن البشر فئات عرقية لكلّ منها حقّ تقرير المصير. ونشير هنا إلى توضيح «هيومن رايتس ووتش» بخصوص تبنّي تعريف واسع لمفهوم «الجماعة العرقية» والذي قد يكون مثالاً يحتذى به.
ينبغي النظر إلى المعركة القانونية لإدانة إسرائيل بالأبارتهايد كإحدى ساحات المواجهة ضد العدوّ، من دون التغاضي عن ساحات المواجهة الأُخرى، ومنها المقاومة المسلّحة المشروعة


ثالثاً، لا يجب أن يغيب عن البال الفرق بين مفهوم الفصل العنصري وتعريفه القانونيّ. الأيديولوجية الصهيونية، بتسييسها للهوية وزعمها أن يهود العامية يشكّلون قومية ذات حقوق ومنها الحقّ في إقامة دولة خاصّة بها، وبسعيها الاستعماري الاستيطاني لإنشاء هذه الدولة على أرض فلسطين، هي بجوهرها حركة فصل عنصري. أمّا التعريف القانوني بالأبارتهايد فلا يشمل، كما ذكرنا، إلّا ممارسات الدولة وليس جوهرها. لإيضاح هذا الفرق عملياً، لنستعرض وجهين أساسيين لجوهر دولة إسرائيل ككيان استيطاني: أوّلاً، رفضها منح اللاجئين الفلسطينيين حق العودة وامتلاك أراضيهم وبيوتهم. وثانياً، منحها الجنسية الإسرائيلية تلقائياً لكل يهود العالم. إنّ هذين القرارين السياسيّين، المتمثّلين بقوانينها ومؤسساتها، يعكسان جوهر إسرائيل الاستيطاني بامتياز. فهل يشملهما التعريف القانوني للأبارتهايد؟
قد يكون سبب رفض إسرائيل عودة اللاجئين حتى اليوم أبرز مثال لجوهرها العنصريّ، فهو يأتي في سياق سعيها للمحافظة على «طهارتها العرقية» بصفتها «دولة يهودية»، وهذا هو فصل عنصري بحد ذاته. إلا أنّ مقاربة المسألة قانونيّاً تحمل تحدّيات عدّة. فالتعريف القانوني للأبارتهايد يشير إلى «السيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى» وليس إلى سعي دولة أن تكون خاصّة بفئة ما. ويمكن بالتالي للصهاينة (أو حتى لغير الصهاينة «المغشوشين» بالبروباغاندا الصهيونية) المحاجة القانونية أنّ رفض إسرائيل عودة اللاجئين لا يأتي بدافع «السيطرة على جماعة عرقية أُخرى»، بل ضمن «حقها المشروع» بمنع دخول اللاجئين «أراضيها» حفاظاً على «أمنها القومي» من «طابور خامس». وهنا يتّضح قصور مفهوم الأبارتهايد القانوني من ناحية عدم مقارعته لشرعية دولة جوهرها استيطاني وعنصري. على هذا النحو، من اللافت أن تقرير «بتسيلم» بعنوان «نظام سيطرة يهودية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط هو فصل عنصري» (المُشار إليه سابقاً) لا يتطرّق أبداً إلى اللاجئين الفلسطينيين بصفتهم ضحايا الفصل العنصري، ربّما باعتبارهم خارج الحدود الجغرافية لأرض فلسطين!
أمّا تقارير منظّمة العفو الدولية و«هيومن رايتس ووتش»، فتعتبر أن فصل إسرائيل العنصري يطاول اللاجئين الفلسطينيين وأنّ منعهم وأحفادهم من العودة إلى أرضهم يشكّل أبارتهايداً، ولو كانت إشارتهم إلى ذلك عابرة في بعض الأحيان. لكنهم من ناحية أخرى لا يعتبرون أن القانون الإسرائيلي العنصري الذي يقضي بـ«حقّ» كل يهود العالم بالجنسية الإسرائيلية (وبالتالي باستيطان فلسطين) مشمولاً ضمن الأبارتهايد. وإحدى نتائج قصور هذه المقاربة هو تبنّي حتّى بعض الصهاينة لهذه التقارير ونعت إسرائيل بالأبارتهايد كجزء من سعيهم في المحافظة على دولة خاصة باليهود!
أمّا تقرير «الإسكوا»، فيمتاز، أولاً، باعتباره بصريح العبارة أن دولة إسرائيل نفسها هي «دولة عنصرية» (والكلمة الإنكليزية المستعملة هنا هي racial وليست racist، في إشارة لغوية إلى جوهرها) وأنها «مصمّمة» للسيطرة العنصرية. وثانياً، بتطرّقه واستناده ليس فقط إلى ممارساتها العنصرية بل أيضاً إلى الأيديولوجية الصهيونية القائلة بقيام «دولة خاصة باليهود». لذا، ليس من المفاجئ أن يكون الإسرائيليون قد فعلوا كل ما في وسعهم كي يُسحب هذا التقرير بالذات من موقع الأمم المتّحدة.
ختاماً، إنّ المعركة القانونية الهادفة إلى أوسع إدانة قانونية وسياسية وإعلامية ومجتمعية لإسرائيل بالأبارتهايد تشكّل إحدى ساحات مواجهتنا العدوّ، وقد تثبت أنها أداة محوريّة لعزل إسرائيل دولياً، لكنّها، بكونها قاصرة عن مقارعة شرعية الدولة اليهودية، قاصرة عن تحقيق هدفنا بإزالة الاحتلال الاستيطاني. فممارسات العدو العنصرية ليست سوى نتيجة لجوهر الأيديولوجية الصهيونية القائمة على تسييس الهويّة واعتبار البشر قوميات عرقية-دينية وصاحبة حقوق جماعيّة. والحلّ، بالتالي، لا يمكن إلّا أن يكون بمشروع سياسي يشكّل النقيض الجوهري للمشروع الصهيوني، وهو المشروع الفلسطيني التاريخي: إقامة دولة ديموقراطية واحدة، من النهر إلى البحر.

* طبيبة وناشطة سياسية وكاتبة فلسطينية مقيمة في لندن، ومن مؤلفاتها «Jerusalem Today: What Future for the Peace Process» و«In Search of Fatima»، و«One State» المعدّ نشره قريباً

** ناشط في «مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة»، وعضو في حزب «مواطنون ومواطنات في دولة»