في يدي برتقالة، أتأمّلها وتتأمّلني. عليها مُلصَق صغير بيضاوي الشكل لونه أخضر وأزرق وأصفر، مطبوع عليه «شموطي» بالحرف اللاتيني و«3072#» بالترقيم العربي. وجَدَتْ البرتقالة طريقها إلى يدي من السوبرماركت في إحدى مدن شمال أميركا، بعد شحنها وتوضيبها وقطافها على الأرجح من شجرة في فلوريدا (وبعضها يأتي من مدينة يافا المحتلة). تلك الشجرة في فلوريدا هي وليدة سلالة طويلة من البذور المستوردة من يافا إلى الولايات المتحدة في عام 1868. المستورِد في تلك الحقبة؟ هنري شيلتون سانفورد.«أورانج» هي كلمة مُدرجة في اللغة العربية (نارنج) سنسكريتية الأصل — المعذرة من رأس دونالد ترامب الأورانجي. لو أردت ترسيم جذور كلمة «برتقال» — بدءاً بمملكة البرتغال (إسم على مسمّى) التي أحضرت تلك الفاكهة من الصين إلى إيران، وصولاً إلى «برتوكالي» باليونانية ولكن «نارنجة» بالإسبانية، لظهرت تحت ريشتي لوحة تنقيط وخطوط شبيهة بسفريات ابن بطوطة وروائع جاكسن بولوك. غني عن القول أن «شموطي» ‪)‬ذات التهجين النباتي من شجرة البرتقال الـ«بلدي» في ما قبل القرن التاسع عشر) هي أيضاً كلمة عربية. لكن يأتيك أحد أصحاب السردية الصهيونية — بما فيهم أخيراً لبنانيون وعرب على موضة التصَهْين — في أميركا من أمثال بْرَت ستيفنز، وهو كاتب رأي في جريدة «النيويورك تايمز» وسابقاً محرّر جريدة «جيروزالم بوست» في إسرائيل، ليتحفنا بكل وقاحة أن فلسطين كانت «أرض قاحلة» قبل اللجوء اليهودي والإستيطان الصهيوني. على علمي من عادات الأرض القاحلة أنها لا تنتج شيئاً، نقطة عالسطر، وشيء غير موجود أصلاً لن يتم تصنيفه بأسماء أو زرعه وقطافه وتوضيبه وتصديره وأكله على مدى قرون. لكن الأخ ستيفنز (ومعه العربي المسَوسَح بموضة الشِيك-صهيوني) نسي أن يفسّر لنا تلك الأعجوبة. لا أفهم كيف شخص على مستواه يتمكن من الإفلات بنشر الأساطير والادعاءات الكاذبة والاعتداءات المستمرة على الوقائع التاريخية. العديد من «الكاناردات» مثل فلسطين كانت «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لا تختلف عن الأكاذيب الزائفة المعادية لليهود في «بروتوكولات حكماء صهيون»، ونظريات تآمرية أخرى التي تولد التنميط المضلل والكراهية بين الشعوب.
الهجمة القديمة على الشموطي تحاكي هجمة قديمة-جديدة على المطبخ الفلسطيني (واللبناني)، ولكن بوتيرة مستعرّة ومتزايدة في السنوات الأخيرة تطابقاً مع صعود القلق الأمني داخل إسرائيل.
معظم الإسرائيليون يحملون جنسية ثانية على الأقل مما يسهل لهم الهجرة بحثاً عن الرزق والإحساس بالأمان في الولايات المتحدة على سبيل المثال، علماً أن الحصول على مؤشرة الدخول إلى دول العالم لغير المجنسين منهم أمر ثانوي وتحصيل حاصل. يوجد أكثر من 150 شركة سطارطآب تكنولوجية إسرائيلية في پالو آلتو، كاليفورنيا، وحوالي مليون إسرائيلي معظمهم موزعون بين نيويورك ولوس أنجلوس. بعض هؤلاء يعمل في سوق المطاعم والمأكولات. على ما يبدو من ضمن ما يحزمه الإسرائيلي في الحقيبة على الطائرة هو المطبخ الفلسطيني برمّته (ووصفات لبنانية ومغربية متفرقة). طبعاً من حقه تحزيم ما يشاء، لكنه يقدّمها على لائحة الطعام إلى المتذوق الأميركي غالباً بالصيغة التالية: «اسم المادة» يليها كلمة «إسرائيليـ/ ـة»، أو معنونة تحت تعابير «ترويقة إسرائيلية» مثلاً أو «مأكولات الشارع الإسرائيلي». وإذا أحس بعضهم بالكرم أحياناً يستعملون «شرق أوسطية» تمويهاً لتسمية مادة أكل معينة. هكذا يريدون تجنيس المواد في فم المتذوق من حُمّص إسرائيلي، تبولة إسرائيلية، لبنة إسرائيلية، حلومي إسرائيلية، فلافل إسرائيلي، خبز جيروزالم، شكشوكة إسرائيلية، شاورما إسرائيلية، زعتر إسرائيلي، سلطة إسرائيلية، باباغنوج إسرائيلي، طحينة إسرائيلية، مغلي إسرائيلي، رز بحليب إسرائيلي، إلخ. البشرية أجمع ما زلت تنتظر ابتكارات أخرى بفارغ الصبر، ربما مناقيش الزعتر والجبنة والكنافة الإسرائيلية يوماً ما. آمين.
المطاعم الإسرائيلية في أميركا، الناجح منها والعادي، تتكاثر وتمتد في المدن الكبرى اليوم. بينها سلسلة مطاعم «تاتي» (كلمة يديشية غير عبرانية، وهي لهجة من لهجات اليهود الألمان، تعني «بابا» أو «دادي») أسستها تْزورِيت اُور التى ترعرت في كيبوتس كينيريت في الجليل المحتل. الزوجان روي وميري شبيندلر يملكان سلسلة مطاعم «پْرَسْد كافيه». ران نوسباخر ودينيس فريدمان هما مؤسسا سلسلة مطاعم «شُوق» (تعني «سُوق» بالعبراني). ويوجد قدماء بينهم كالزوجين نحمان ميلو وسيما بار-أون، مؤسسو سلسلة مطاعم «ماؤز» (تعني «معقل» بالعبراني). يوجد أيضاً مطاعم صغيرة فردية تضحكني حتى الغثيان، لائحتها تتكون من «الفلافل الإسرائيلي» كمادة وحيدة أو «الحمص الإسرائيلي»، كالمطعم الجديد في إحدى المدن الأميركية الذي لم يفتح أبوابه بعد، عبارة عن دحشة صغيرة في الحائط اسمه «حمص ڤ حمص» (ڤ تعني «و» بالعبراني) مكتوب بالإنكليزية ذات الخط المستوحى من الكاليچرافية التلمودية، بطولة الإسرائيلي آفي شِمتوف الذي يُعرِّف عن نفسه كـ«طاهٍ تنفيذي مبتكِر». والابتكار؟ «رواية قصة الشعب الإسرائيلي من خلال طعامه». ما هي مساهمته في عالم الابتكار؟ أولاً: الشكشوكة (علماً أنها كلمة عربية تعني الخليط، جذورها بين المغاربة والبربر)، عبارة عن «مزيج من البيض والبندورة والتوابل الشائعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا» كما يقول. ثانياً: الحمص، بحسب شِمتوڤ «كمفهوم طعام الشارع الإسرائيلي سريع الخدمة…نظرًا لكونه جزءًا من حركة الترويج للمطبخ الإسرائيلي عالميًا». يا لهوي على هالإبتكار! الإخوان تمخضوا واخترعوا البارود في الحمص، ربما بإضافة رشة ملح زيادة. الرجل يكاد يتفركش بكثرة اختراعاته التي تتضمن موقعه على الإنترنت «الليلة نسيطر على العالم» — مش عم امزح (تونايت وي تِيْك اُوڤر ذا وورلد دُطْ كوم).
هكذا وببساطة، احتلال الأرض تلاه احتلال السردية التاريخية تلاه احتلال الذاكرة تلاه احتلال النفَس الطيب


ادخُلُ ذات يوم إلى «مطعم رامي للفلافل» من باب الحشرية في مدينة بروكلن (القريب من «ملك الشاورما» اللبناني والذي لا أزوره كوني نباتي). أطلب بلا تردد، بكل جدية وابتسام ونعومة صوت (بالإنكليزية الأميركية اللهجة طبعاً)، «واحد مع بندورة إسرائيلية، رشة بقدونس إسرائيلية، شوية فجل إسرائيلي، طراطور إسرائيلي وسط، على قبعة إسرائيلية واحدة مش رغيف إسرائيلي». يخيّم الصمت فجأة على كامل المحل الصغير بزبائنه وعمّاله، فيما رامي الإسرائيلي يحاول استيعاب ما سمعه بتعجب وحيرة. أكسر الصمت مضيفاً «لا تنسى إضافة ثلاث حبات فلافل فلسطينية پليز. الدفع بالشيكل أو الدولار؟»
يقف على حدة أمثال سلسة المطاعم الأميركية (غير الإسرائيلية) «كاڤا» التي تستعمل نفس المواد العربية واليونانية دون نكران هويتها أو شطبها من الذاكرة. كذلك الأميركي اليهودي ايير موير، وهو برأيي محترم ومتنور الفكر لا يمت بصلة إلى ما يسمى زيفاً المطبخ الإسرائيلي. فلسفة مشروعه — سلسلة مطاعم «كلوڤر فود لاب» (عبارة إنكليزية لـِ «مختبر البرسيم الغذائي») — المساهَمة في تخفيف الإحتباس الحراري وتأثير صناعة اللحوم على البيئة. مطبخه نباتي بالكامل (الأطباق الأساسية صغيرة وغير سخية)، يشمل ما يسميه «شكشوكة تونسية» وفلافل مسماة «فطيرة الحُمّص» (حمص فريترز) بدل تسميتها باسمها الأصلي. أيضاً يوجد مطعم أميركي صغير (والمفضل لدي) اسمه «لايف الايڤ» النباتي الڤيچِن (لا صلة له بإسرائيل) حيث طبق الفلافل المحمص والمخبوز في الفرن (غير مقلي) يرد باسم جميل حسب الفصل: «فلافل الشتاء».
الأمثلة كثيرة، لكن القضية ليست أبداً في أن يفتتح الإسرائيلي مطعماً. هذا حق طبيعي لكل إنسان. طعمة اللسان ثقافة والطهي فن والمطبخ الوطني حضارة. لا يوجد أي إحساس بالغبن أو الكوميديا السوداء إذا أدرج طاه فرنسي أو هندي أو يوناني أو إسرائيلي على لائحته طبقاً أصلياً أو مُعدلاً ولكن مستعاراً من خارج هويته. ولن يزعج أحد لو أضافت «ماكدونالد» سندويشة «ماكفلافل» إلى لائحتها. الحقارة والخساسة والانحطاط الانساني يتجلون في مصادرة إرث تاريخي، محو جذوره وهويته، وضمه بالفبركة إلى من يصطنع لنفسه إرثاً وطنياً أساسه مسروق. التبَني غير المناسب للعادات والممارسات والأفكار دون الإعتراف بمصدرها، أو نسبها كذباً، هو تزوير. يُطرَد رأساً من المدرسة أو الجامعة إذا فعلها أي تلميذ في كتاباته مثلاً، إلا إذا كان مدججاً بالأسلحة النووية والتقليدية في الصف، أو كان الولد المدلل عند أوروبا وأميركا وروسيا، أو كان العضو رقم 23 المستحدث في جامعة الدول العربية، أو إذا أشهر عشوائياً كَرْت «معاداة السامية» ضد منتقدي الصهيونية مهما انصفوا بحق اليهودية وفرّقوا منطقياً بين الإثنين.
هكذا وببساطة، احتلال الأرض تلاه احتلال السردية التاريخية تلاه احتلال الذاكرة تلاه احتلال النفَس الطيب. لم يبقَ أمام الصهيونية شيئاً لم تقضمه، فراحت تقذفنا بمولوتوف الفلافل والحمص. إنه الصدأ والحقد والغل في معدن الصهيونية المسموم والمطابق لمقولة الفيلسوف إيمانويل كانط «من خشب البشرية الأعوج، لا يُصنَع شيء مستقيم على الإطلاق»، التي بنى عليها المفكر أيْزيا برلين عنوان كتابه «خشب البشرية الملتوي» (أتمنى أن أكون أنصفت لغوياً في ترجمتي هاتين الجملتين).
ما زلت أتأمل تلك البرتقالة في يدي. وكأنها تقول لي «أنا بذرة من بذور الحقيقة لا يمكن تشويهها مهما طال الزمن؛ كل الشكر للسيد سانفورد». هنري شيلتون سانفورد كان ديبلوماسياً أميركياً ثرياً ورجل أعمال من ولاية كونيتيكت. استثمر في مزارع فلوريدا للحمضيات واستورد بذور الشموطي من التجار الفلسطينيين في حقبة ستينات القرن التاسع عشر. مزارعون فلسطينيون في يافا طوروا برتقال «الشموطي» بالتعديل النباتي والتهجين لشجرة البرتقال «البلدي». أساساً التجار والأعيان الفلسطينيون كانوا يملكون مزارع الحمضيات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فيما المزارعون الفلسطينيون يعملون فيها. بحلول عام 1870 نما سوق صادراتهم بنسبة هائلة بلغت 19000٪ (حسب تقديري الحسابي) مع تطور السفن البخارية. تميّز ازدهار صناعة البرتقال الفلسطيني بعدم التواجد النسبي للسيطرة الأوروبية على زراعته وتصديره في القرن التاسع عشر. حوالي عام 1902، كشفتت دراسات الإنفاق المالي عن تلك الفترة أن الأساليب الفلسطينية كانت في نهاية المطاف أكثر فعالية من حيث التكلفة من الشركات الصهيونية-الأوروبية التي تبعتها بعد عقدين من الزمن مع بدء المشروع الاستيطاني الصهيوني ثم النكبة. تلك البرتقالة اثبات حي وتوثيق طبيعي. فليتبناها الإسرائيلي، وليتبنى الفلافل والحمص والتبولة لنفسه‪؛‬ المائدة العربية بأجمعها والمازه اللبنانية عريقة مستقرة متصالحة مع نفسها ومع غيرها. يا خيي خدها كلها، فأنت لن تشبع مهما أكلت. نحن أكرم ونفسنا أكبر مما تتصور، وعندما تصبح جاهزاً لإزالة الجلدة الصهيونية عن وجدانك، نجد لك كرسياً بيننا وأمام طاولتنا دون أن تطلب.
نعيش اليوم في عصر اللامعقول. إنه زمن زرع المعلومات الـ«فِيْيك» والتزوير. يقف دكتور الأشعة إلى جانب المريض، ينظران معاً إلى صُوَر الأكس-راي لدماغ المريض، فيقول الدكتور: «شايف هالنقطة في أعلى المخ عشمال المخيخ؟ سوف نزرع مستعمرة إسرائيلية مصغرة فيها». إنه زمن تحويل الوقائع إلى وجهات نظر غير عادية. قطاع غزة، الملتف حوله كيان نووي لأقوى جيش في المنطقة، يذكّرني بنقوش خشبية (وُدْكات) للفنان الهولندي موريتس كورنيليس إيْشر المشهورة بالهندسة السريالية المغرقة ونسبية المنظار. أليس قطاع غزة هو الحر والمستقل فيما كل ما حوله من دول عربية وجغرافيا وتاريخ — ومطبخ — هم سجناء إسرائيل؟ مستعمرات المذاق والنكهة والمزاج وصلت، فاستقبلوها على مائدة اتفاقيات إبراهيم.