«أذكر جيّداً حديثاً دار بيني وبين خليل خلال شهر العسل عندما سألته عن البدايات. كيف ومتى بدأت الفكرة؟ أجابني، حينها، بحماس شديد، عن حوار دار بينه وبين ياسر عرفات في تموز/ يوليو 1958، وقال إنه وعرفات كانا يجوبان بالسيارة شوارع الكويت منتصف الليل، ويتحدّثان بشجون وانفعال وغضب عمّا حلّ بشعبنا من حرمان وتشرّد، دون أن يكون لشعبنا أي ذنب في ما حصل. وتساءلا في ما إذا كان شعبنا سينتظر أن تقوم الدول العربية، بدلاً منه، باتخاذ موقف، وهي التي تقف حارساً أميناً على حدود العدو، تعتقل وتسجن وتعذّب أي شخص يفكّر، أو يحاول، العمل لتحرير فلسطين».هذه الفقرة جزء صغير من كتاب «رفقة عمر: مذكّرات انتصار الوزير (أم جهاد)»، الصادر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» ضمن سلسلة «ذاكرة فلسطين» التي صدر منها العديد من كتب المذاكرات واليوميات لشخصيات فلسطينية وعربية خاضت غمار النضال الفلسطيني.
ولمّا كانت القوى الفلسطينية لم تقدّم نقدها الذاتي للتجربة الفلسطينية، ولا حتى مراجعات داخلية لتجربتها ومآلاتها، تأتي هذه السلسلة وغيرها من كتب المذكّرات واليوميات كضرورة لتضع القارئ والمهتم والباحث أمام تفاصيل جديدة غابت أو غُيّبت، وأحياناً تكون معروفة ولكنها غير مؤكدة، ولولا التوثيق والتدقيق لكان ما يقال عن الحاج أمين الحسيني وعلاقته بالنازية حقيقة، إلا أن وجود مذكرات ومتتبّعين كالباحثين والمؤرخين أمثال ماهر الشريف وعادل مناع وروز ماري صايغ وابنها يزيد وصقر أبو فخر وغيرهم لما عثرنا على الحقيقة في التاريخ القريب فما بالنا بالتاريخ البعيد.
هذا الجهد الكبير الذي يبذله هؤلاء المؤرخون والذي يبذله «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، والذي سبقه إليه «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، التي أصدرت ولا تزال كتباً مرجعية كـ«وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939: من أوراق أكرم زعيتر» و«الحركة الوطنية الفلسطينية 1935 - 1939: يوميات أكرم زعيتر» كما أصدر «مركز دراسات الوحدة العربية» كتباً أرّخت النضال الفلسطيني ككتاب «من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق» وغيره.
هذه الكتب العديدة وغيرها الكثير، من شأنها أن تشكّل مجتمعة في يوم من الأيام خارطة واضحة المعالم لكتابة أو إعادة صياغة الرواية الفلسطينية المحبوكة منذ ما قبل النكبة وصولاً إلى يومنا الحالي، وذلك ليس من أجل التاريخ فقط، بل من أجل فهم واضح وعميق مبني على الدلائل والوقائع لتفسير أحوالنا اليوم، ومن أجل استشراف ما ستؤول إليه القضية الفلسطينية والقضايا العربية وحتى الدولية، على اعتبار أن العدو الإسرائيلي ليس مجرّد محتل لأرض تقع في الشرق الأوسط، بل هو استعمار تم استنساخه من استعمارات عدة حول العالم، ليؤدّي دوراً وظيفياً على الأرض وفي المنطقة ككل لتضمن دول الاستعمار القديم قدرتها على السيطرة المستمرة ولو بلبوس جديد لا يغير من جوهرها الاستعماري الإمبريالي.
تؤمّن تلك الكتب التي يختلف البعض مع محتواها لأسباب خاصة أو عامّة، للأجيال القادمة مادة دسمة للفهم الحقيقي لما حصل ويحصل فلسطينياً وعربياً ودولياً، وبالتالي تضع بين أيديهم أداة لمواجهة رواية الاحتلال التي صاغها اعتماداً على التزوير والأكاذيب واستناداً على السرديات الدينية، والوثائق التي نهبها في فلسطين وخارجها منذ بدء الهجرة اليهودية.
يعتمد المستعمِر على التاريخ الأصلي للأرض وشعبها لصياغة تاريخ خاص به، وفي حال لم ينتبه أو صمت المستعمَر لما يقوم به المستعمِر فإن تاريخاً كاذباً سيتمكّن من الأرض وسيجد من يصدّقه في العالم، وهو ما تعمل عليه الصهيونية، وانتبهت إليه مبكراً، لذا قدّرت أهمّية أن يكون للقضية الفلسطينية مراكز بحثية وازنة كـ«مركز الأبحاث الفلسطيني»، الذي حاولت إسرائيل تفجيره عدة مرات لتتمكن منه أخيراً في عام 1983، بعدما نهبته خلال اجتياح لبنان. ولكن مقابل اهتمام الاحتلال بموجودات المركز، لم تهتم قيادة «منظمة التحرير» والسلطة الفلسطينية لاحقاً بتسليمه لجهات تحترمه وتستفيد منه بعدما استردّته في عملية تبادل الأسرى التي تمّت في عام 1983، ووضع الأرشيف في الجزائر حتى اليوم من دون أن تُعرف حالة موادّه.
تمكّن الفلسطينيون، بمبادرات مؤسساتية صغيرة وكبيرة وحتى مبادرات فردية، من العمل على طرح رواية فلسطينية مدعمة بالوثائق والحجج والبراهين لتأكيد الحق بالبينة عبر الوثائق والحقائق الداعمة للسردية الفلسطينية، المتاحة اليوم عبر مواقع الأرشيف الفلسطيني الذي أطلقه المتحف الفلسطيني قبل أيام، والمشاريع الرقمية لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، وكذلك أرشيف خزائن.
وضع الدكتور وليد الخالدي كتابه الموسوعي المرجعي «كي لا ننسى» وصار وثيقة لنا، وعلينا، إن قصرنا ولم نعرّف أولادنا بقراهم ومدنهم جغرافياً وتاريخياً، كما نعرّفهم بأبجديات الكلام في طفولتهم المبكرة، فالحجة علينا إن كبر طفل فلسطيني وقال إنه «من المخيم»، ولم يكمل باسم قريته أو مدينته المحتلة في فلسطين المحتلة منذ النكبة عام 1948.
ما سبق في مطلع المادة من مذكّرات أم جهاد، لا يأخذ معناه فقط من كونه تاريخاً كتبته زوجة الشهيد خليل الوزير أبو جهاد، بل هو واحد من السبل لمعرفة مستقبلنا بعد أن سقطنا في وحل التسويات.