طبعت أفكار وملامح «الثورة البيضاء» التي أطلقها الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي عام 1963، صورة إيران لنحو عقد ونصف عقد. والفعل، من حيث النتيجة، كان محاولة من الشاه لخلق قاعدة اجتماعية - اقتصادية جديدة يستطيع الحكم من خلالها، رداً على تهديدات الطبقة الوسطى التي بات عداؤها يتزايد على وقع السياسات الداخلية والخارجية التي راح ينتهجها هذا الأخير. وبالمعنى المتقدّم، تصبح «الثورة البيضاء» أقرب إلى خطوة استباقية لقطع الطريق على نظيرتها «الحمراء» التي ارتسمت ملامحها منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي عبر تحوّل بدا نوعياً، يقوم على ميل متنام لدى الطبقة الوسطى إلى التماهي مع «اللبوس» الإسلامي، سبيلاً لخلق واقع جديد في البلاد تستطيع من خلاله تفعيل هذا المخزون الحضاري الذي تختزنه ذاتها الجمعية، لتستخرج منه قواماً يصلح لوضع «العربة» على مسارها الصحيح.كانت مدينة مشهد، التي لطالما تميّزت بالحفاظ على طابعها الإسلامي المتحفّز، في صلب تلك التحوّلات، إلا أن المدينة راحت تبدي صلابة وتحفّظاً على «الإصلاحات التعليمية» التي كانت النظرة إليها تقوم على أنها محاولة لـ»التغريب» أكثر من أي شيء آخر. وفي ظل هذا الصدام، راح وعي إبراهيم رئيسي، المولود عام 1960 في حي نومان في مشهد، يتفتّح. كانت البيئة الضيّقة المحيطة بالفتى كفيلة بخلق شخصية عقائدية متوازنة، ووضعها في المسار الذي يجعلها قادرة على الانتقال من مرحلة التأثّر إلى التأثير.
ستحفر لحظة عودة الإمام الخميني يوم 1 شباط 1979 من منفاه الباريسي إلى طهران، خندقاً عميقاً في مطارح الذهن والروح لدى الفتى الذي لم يكن قد أتمّ عامه التاسع عشر في حينها. والراجح هنا، أن تلك اللحظة كانت قد أيقظت في النفس تعاليم فاضل النكراني ونوري الهمداني والمرشد علي خامنئي لترسي فيها يقيناً يقول إن «التعاليم» هي نتاج أصيل لإرث متأصّل.
تنقّل رئيسي، بعد انتصار «الثورة الإسلامية»، في مناصب القضاء حتى وصل إلى الذروة منها عام 2019 عندما جرى تعيينه رئيساً للسلطة القضائية، لكن «محطة» عام 2016 كانت فارقة في المسار بدرجة بدت محدّدة للآفاق التي من المحتمل أن يصل إليها، حيث سيقوم المرشد بتعيينه سادناً على «العتبة الرضوية المقدّسة» في مشهد. ظهر الفعل أقرب إلى تسليط الضوء على رجل راح يشتهر بعمامته السوداء التي كانت تدل على أصوله، وصارت تشير إلى ميوله. تبنّى رئيسي، على خطى المرشد، لهجة تحدٍّ في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو كان أميل إلى التحفظ على «الاتفاق النووي» الموقّع مع مجموعة 5+1، في تموز عام 2015، استناداً إلى رؤية مفادها أن «الاعتدال» لتحصيل «الحقوق» رهان خاسر، فكيف إذا كان مع قوة ترى أن «إركاع « الخصوم، فحسب، هو السبيل الوحيد لبقاء ردائها مظلّة للعالم؟ وهو ما ستثبت الأحداث موضوعيته، عندما وقف دونالد ترامب، ذات أيار من عام 2018، معلناً أن طهران على وشك مغادرة تلك المظلة ببقاء «الاتفاق» أو من دونه.
عندما ترشّح للانتخابات الرئاسية عام 2021، كان شعاره هو»نصير الفقراء وعدو المفسدين». وفي أعقاب الإعلان عن فوزه، أكّد في مؤتمر صحافي أن «عيش إيران لن يرتبط بإرادة الأجانب»، وأن «التدخل الأجنبي في المنطقة لا يحلّ أي مشكلة، بل هو المشكلة بعينها»، وأضاف رداً على سؤال حول العقوبات الأميركية التي فُرضت عليه عام 2019: «أنا فخور بكوني مدافعاً عن حقوق الإنسان وأمن الناس وراحتهم كمدّع عام أينما كنت». وفي حينها، راحت التقارير الغربية تتكاثف حول الرجل – الظاهرة، واضعة إياه كخليفة محتمل للمرشد الأعلى، وفقاً لتقرير نشره الصحافي الأميركي، دكستر فيلكينز، الشهير بتغطيته لحربَي أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على التوالي.
على مدى نحو ثلاث سنوات من حكمه، انتهج سياسة داخلية تقوم على معالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي خلّفتها العقوبات المفروضة على بلاده سعياً إلى تقوية اللحمة في نسيج راح يبدي تململاً في بعض «أليافه»، ونظيرةً لها خارجية تقوم على التقارب مع دول الجوار سبيلاً لتحصين المنطقة التي رأى أنها تتعرّض لهجوم شرس لربما لم تشهده منذ «الغزو الصليبي» لها ما بين عامي 1098و1301. ليلة 13 - 14 نيسان المنصرم، كان رئيسي على موعد مع «الممارسة» في قوله الآنف الذكر بأنه سيبقى «كمدّع عام أينما كان»، لكن الفعل، هذه المرة، امتد نحو سماوات فلسطين في مشهد يريد القول إن «المنصب» يخوّل صاحبه الدفاع أيضاً عن من سُلبت أرضهم وديارهم، وعن مقدّساتهم، حتى لو كانوا من غير الإيرانيين. كانت تلك الليلة إسقاطاً لما اكتنزته الذاكرة من تعاليم على مدى يقرب من نصف قرن. وعليه، لم تبد مصادفة أن تكون آخر كلماته التي قالها في حفل افتتاح سدّ مشترك مع نظيره الأذربيجاني، إلهام علييف، قبل الوفاة بساعات، هي أن «دعم إيران للفلسطينيين هو محور السياسة الخارجية الإيرانية منذ انتصار الثورة»، وأن» فلسطين هي القضية الأولى لإيران وللعالم الإسلامي».
سيرة حياة إبراهيم رئيسي تقول إن الإسلام لا يزال في طور الثورة، وهو لم يغادر ذلك الطور، بل ولن يغادره على الإطلاق ما بقي القهر والظلم والاستكبار، وما بقيت حقوق الشعوب مسلوبة بفعل موازين قوة مختلّة، لكنّ الرهان يظلّ قائماً على أن معادلات القوة متحوّلة، فلماذا علينا إذاً أن نكسرها بصكوك هي أقرب إلى الإذعان؟