تتحرّك الأحداث في منطقة القوقاز الجنوبي بسرعة؛ ففي أعقاب «الحرب الثانية» (19 أيلول 2023)، والتي انتهت إلى تهجير كامل سكان قره باغ الأرمن، وعددهم 120 ألفاً، إلى أرمينيا، أعلنت كل من باكو وموسكو عن بدء انسحاب قوات المراقبة الروسية من الإقليم وممرّ لاتشين بشكل نهائي. وكان نصّ اتفاق إنهاء «الحرب الأولى» بين آذربيجان وأرمينيا، في خريف عام 2020، والتي انتهت إلى هزيمة مريرة للأخيرة، على تموضع قوات حفظ سلام روسية في قره باغ والممرّ الواصل بين أرمينيا والإقليم المتنازع عليه، وأن تكون مدّة التمركز حتى العاشر من تشرين الثاني 2025، علماً أن عدد أفراد القوّة الروسية يبلغ 1960. وأحدثَ قرار الانسحاب الذي أعلنه نائب الرئيس الآذربيجاني، حكمت حاجييف، خيبة أمل لدى رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، الذي أعرب، عام 2022، عن رغبته في استمرار وجود قوات المراقبة الروسية في قره باغ، واستعداده للتوقيع على وثيقة تمديد خدمتها لمدّة 10 أو 15 أو 20 سنة.وفي هذا الإطار، يرى الباحث الآذربيجاني، فوسال حسن زاده، أن الاتفاق على انسحاب القوات الروسية يُمثّل نجاحاً كبيراً لديبلوماسية بلاده، عازياً ذلك إلى مجموعة أسباب:
1- علاقات التحالف الوثيقة بين روسيا وآذربيجان منذ 30 عاماً.
2- اتباع باكو منذ سنوات سياسة متوازنة بين الغرب والشرق.
3- تصاعد قوّة آذربيجان تجاه روسيا نتيجة ابتعاد أرمينيا وجورجيا المتزايد عن موسكو وتقاربهما مع الغرب، وانشغال الروس بالحرب في أوكرانيا، وهو ما أتاح لباكو تحويل وضعها الصعب إلى مكسب إستراتيجي. ووفقاً للباحث، فهذه ليست المرّة الأولى التي تنجح فيها آذربيجان مع روسيا؛ فـ«في عام 2012، ونتيجة جهود باكو، اضطرت موسكو إلى الانسحاب من قاعدة رادار غابالا التي كانت استأجرتها من آذربيجان عام 2002. ثم جاءت عملية 19 أيلول 2023 الآذربيجانية في قره باغ، والتي مكّنت باكو من السيطرة الكاملة عليها، حيث لم تَعُد لقوات المراقبة الروسية أيّ وظيفة عملية».
وربّما تأتي الاستجابة السريعة من قِبَل روسيا لمطلب آذربيجان الانسحاب، بمنزلة مبادرة إيجابية تهدف إلى توثيق العلاقات بين البلدين. ولذا، تقول صحيفة «جمهورييات» التركية إن يريفان لم تقابل خطّة الانسحاب الروسية بارتياح، في وقت «تواصل فيه فرنسا التحريض في جنوب القوقاز عبر أرمينيا». وكانت باريس قد استدعت، أخيراً، سفيرها في باكو «للتشاور»، بعد التصريحات الآذربيجانية المنتقدة بشدّة لفرنسا، والتي بدأت منذ نهاية العام الماضي مع تزويد أرمينيا بالأسلحة، ومنها 50 مركبة مدرعة. كما أن وزير الدفاع الفرنسي، سيباستيان ليكورنو، زار، في شباط الماضي، يريفان، حيث أعلن أن بلاده مستعدّة لتزويد أرمينيا بأنظمة دفاع جوي قصيرة ومتوسطة المدى. ومن جهتها، أعلنت باكو، العام الماضي، أن اثنين من موظّفي السفارة الفرنسية لديها «غير مرغوب فيهما»، كما اعتقلت مواطناً فرنسياً بتهمة التجسّس لمصلحة بلاده.
في هذا الوقت، تمضي أرمينيا قُدماً في توثيق علاقاتها مع الغرب، إذ اجتمع، باشينيان، في الخامس من الشهر الجاري، إلى كلّ من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، ومسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد جوزف بوريل، ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في بروكسل. وأعربت روسيا عن استيائها من الاجتماع الرباعي، متهمةً الغرب بأنه يسعى إلى فصل أرمينيا عن «اتحاد أوراسيا الاقتصادي» و«منظمة معاهدة الأمن والتعاون الجماعي». ووفقاً لبيان للخارجية الروسية، فإن «موسكو لن تسمح للوعود الغربية الكاذبة بأن تجد ترجمة لها». أمّا الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، فاتّهم الغرب بأنه يسعى إلى تحويل أرمينيا إلى مخفر متقدّم له في القوقاز. وهذا، بحسب علييف، «سيفتح الباب أمام نتائج وخيمة العواقب».
وفي أعقاب الاجتماع المذكور، قال بلينكن إنه يدعم الشعب الأرميني وأرمينيا من أجل «قوقاز ديموقراطي ومرفّه»، وأن «يعيش الشعب الأرميني بسلام مع جيرانه وأن يأخذ مكانته كأمّة مستقلّة»، معلناً تخصيص 65 مليوناً كمساعدة لأرمينيا، وأنه «يريد أرمينيا مندمجة في محيطها في مجال المواصلات والطاقة والاتصالات»، فيما كشفت فون در لايين أن الاتحاد الأوروبي سيخصّص مبلغ 270 مليون يورو على مدى السنوات الأربع المقبلة، على أن يدعم أرمن قره باغ الذين هاجروا إلى أرمينيا بمبلغ 30 مليون يورو لتسهيل اندماجهم في المجتمع. بدوره، أيّد باشينيان «إعلان ألماتا» لعام 1991، الذي يشير إلى الاعتراف المتبادل بين أرمينيا وآذربيجان في شأن سيادة أراضيهما ووحدتها. وقد رحبت تركيا باللقاء الثلاثي، داعيةً إلى اغتنام الفرصة لتحقيق «سلام عادل وبنّاء» بين أرمينيا وأذربيجان.
وتبقى مسألة الاتفاق على حلّ نهائي وعادل للخلاف الأرميني - الآذربيجاني مثار أخذ ورد بين البلدين؛ إذ تطلب باكو ترسيم الحدود بين البلدين، والاعتراف بسيادتها على كامل أراضيها المعترف بها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي. ومن أجل هذه الغاية، عقد الطرفان عدداً من الاجتماعات في عواصم مختلفة. ورغم المرونة التي أبداها رئيس وزراء أرمينيا في شأن الاعتراف بأذربيجانية كل هذه الأراضي بما فيها منطقة قره باغ، فإن العقبات لم يتم تذليلها بعد. وقبل عشرة أيام، رأى وزير خارجية أرمينيا، أرارات ميرزويان، في تصريح إلى تلفزيون الدولة، أنه «رغم توصّل الطرفين إلى عدد من الاتفاقيات، ولكنّ عقبتين لا تزالان تعترضان طريق الوصول إلى تسوية: الأولى، هي الاعتراف المتبادل بوحدة أراضي كل بلد وترسيم الحدود وفقاً لاتفاقية ألماتا لعام 1991؛ والثانية، هي الاتفاق على آلية دخول حدودية إلى كل بلد من دون وجود قوى دولة ثالثة، وهو ما ليس واضحاً بعد».