مثّلت الأحداث التي شهدتها شبه جزيرة القرم عام 2014، نذيراً بانفجار لاحق حتماً، نتيجة لحمولات من النوع «شديد الاشتعال» راحت تتراكم في رحم نظام دولي، فيما توقيتُ انفجارها ظل رهين عوامل عدّة؛ أبرزها طبيعة العلاقة القائمة ما بين موسكو وواشنطن، ثم كيف تقرأ الأولى نيات الأخيرة تجاهها، بحسابات يجب أن لا يدركها الخطأ، قبل إشعال فتيل كان من الواضح أنه سيؤدي إلى اختلالات في التوازنات الدولية التي يقوم عليها نظام الأحادية القطبية منذ عام 1991.انفجر الصراع يوم 24 شباط 2022، ومنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن إطلاق «العملية الروسية الخاصة» في أوكرانيا، تعهّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، بدعم لكييف «إلى ما لا نهاية»، وصل إلى ذروته في العاصمة الليتوانية فيلنوس التي شهدت، في تموز الماضي، انعقاد قمة "حلف شمال الأطلسي" على مسافة لا تبعد أكثر من 150 كيلومتراً عن الحدود الروسية، حيث جدّد الرئيس الأميركي دعم بلاده لأوكرانيا، قائلاً إنه سيستمر «مهما استغرق الأمر».
حين اتخذت واشنطن هذا الموقف، لم تكن نتائج الهجوم الأوكراني المضاد قد اتضحت بعد. والراجح هنا أن الرهان كان لا يزال قائماً على إمكان أن يحقّق هذا الأخير بعض المكاسب انطلاقاً من حجم الدعم والإسناد والتحضير الذي حظي به على امتداد الربيع المنصرم، قبل أن ينطلق مع بداية الصيف. لكن النتائج جاءت عكس ما يشتهيه القيّمون على ذلك الدعم. ومع مطلع الخريف، كانت باخموت قد وقعت تحت سيطرة الحراب الروسية، ممهّدة لسقوط أفدييفكا. ومطلع الخريف، آنف الذكر، سيحمل متغيراً ثانياً، بدا أشد وطأة على غرف صناعة القرار الأميركي. فقد كان فجر 7 أكتوبر قد حمل معه صوت القائد العام لـ«كتائب القسام»، محمد الضيف، وهو يعلن أن التاريخ الآن يسطّر «أشرف وأبهى صفحاته». والحدث، وتداعياته، أنتجا حالة «تنافسية» دفعت بدوائر القرار الأميركي إلى الانشطار حول أيٍّ من الحربين، أوكرانيا وغزة، هي التي يجب أن تكون لها الأولوية. وإذا كانت الأولى تمثّل تمهيداً لتحوّلات جيوسياسية شديدة الأهمية في «القارة العجوز» التي ما انفكت تلعب دور الساحة الرئيسيّة لمجمل التحوّلات العالمية على مختلف أنواعها طوال خمسة قرون، فإنّ لصراع الشرق الأوسط مذاقاً يحدّد إلى درجة بعيدة طبيعة «السطوة» الأميركية، وشدة قبضتها على عالم راح يبدي تململاً منها. والشاهد هو أنّ حرب غزة كانت أكثر تأثيراً على جوّ العلاقات الدولية، وكذلك على نسيج المجتمعات العالمية، من الحرب الأوكرانية.
حرب غزة كانت أكثر تأثيراً على العلاقات الدولية، وكذلك على نسيج المجتمعات العالمية، من الحرب الأوكرانية


الخريف عينه، كان قد حمل معطى جديداً ثالثاً، تمثّل في صعود جديد لدونالد ترامب الذي تزداد فرصه مع مرور الوقت، حتى بات إمكان عودته إلى البيت الأبيض محتملاً جداً. وفعل العودة هو من النوع «غير الحميد» كما يراه كثيرون في أوروبا المشتّتة، والمهدّدة في نظر البعض، وفي الشرق الأوسط، ولربما في الصين والهند أيضاً. فمواقف الرجل الإشكالية تجاه العديد من الصراعات كفيلة بقرع ألف جرس إنذار لدى الرباعي آنف الذكر. وكمثال صريح على ذلك، يكفي ذكر ما قاله الأخير أمام مؤتمر للمحافظين الأميركيين في آذار من العام المنصرم: «يمكنني أن أؤكد لكم أنها لن تكون مهمة صعبة (وقف الصراع في أوكرانيا). يمكن القيام بها في غضون 24 ساعة، إذا عرف الناس ما يجب عليهم فعله». والمؤكد هو أن منظّري «الدولة العميقة» الأميركية ينظرون إلى توجّه كهذا على أنه وضع لهذه الأخيرة على «الفالق» الذي وجدت كل من بريطانيا وفرنسا نفسيهما عليه خريف عام 1956.
في الذكرى الثانية للحرب، عقدت «مجموعة السبع G7» قمتها الأولى تحت الرئاسة الإيطالية، بتقنية الفيديو، وكان هدفها الأول هو إظهار وحدة الصف الغربي في مقاومة «التململ الروسي». ولربما كان البيان الصادر عن القمة كاشفاً بوضوح لتوجه كهذا، لكن معايرة الأحداث، أو إجراء جردة حساب لها، تؤكّد حدوث تحوّلين جيوسياسيين مهمين خلال العامين الماضيين، أولهما تبلور العلاقة القائمة بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية إلى شكل أقرب إلى «التحالف» وإن كان وسم «المرحلية» طاغياً عليه، لكن سياقات الصراع قد تفرض عليه مغادرة ذلك الوسم، وثانيهما استعادة حلف «الناتو» قدراً كبيراً من «لحمة» نسيجه الذي كان آخذاً بالتفكك قبل شباط 2022. لكن الفعل الأخير قاد من حيث النتيجة إلى انقسام عالمي، تراسيمه تشبه، في التوازنات والتراصفات، تلك التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة (1945 - 1989).
في مطلق الأحوال، يشير ثالوث العوامل الواردة أعلاه إلى أن المواقف الصادرة عن قمة «السبع» هي ذروة «الشد» والتصعيد، وهي تخفي وراءها احتمالاً يبدو قوياً، وهو أن تتخذ الذروة السابقة مساراً انحدارياً خلال وقت قريب، أي خلال ما تبقى من ولاية جو بايدن، الذي قد يجد أنه لا بديل من دفع كييف إلى قبول التفاوض مع موسكو بغرض التوصل إلى أفضل صيغة ممكنة في ظل الحقائق التي يفرضها الميدان راهناً ومن خلال خرائط السيطرة المرتسمة على الأرض. والمؤكد هو أن سيناريو كهذا سيكون مفيداً لواشنطن على محملين، الأول أنه سيضع حداً لحرب هدّدت الأمن والسلم الدوليين كما لم تفعل أي حرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والثاني أن روسيا، لحظة الإعلان عن الاتفاق المفترض لوقف إطلاق النار، ستكون في وضع أضعف، بما لا يقاس، عن ذاك الذي كانت عليه عشية الحرب، بسبب خسائرها العسكرية والاقتصادية. لا بل ستكون على موعد مع خسائر أكبر، وفقاً للرؤية الأميركية، يمكن أن ينتجها فقدان «حظوتها» لدى ثالوث بكين - طهران- بيونغ يانغ، فور أن يتقرّر وضع «سقّاطة» الأمان في البنادق إلى أعلى.