اختارت الإمبراطورية الأميركية أن تضحّي باستثمارها في الحروب الناعمة، وربما تعتقد إدارة الرئيس جو بايدن أنّ لديها الإمكانات والقدرة على إعادة ترميم الضرر الذي لحق بصورتها، اعتماداً على إمكاناتها الدعائية والمالية وأدواتها بطبيعة الحال. من هنا، يبرز تحدٍّ كبير ينبغي أن تتصدّى له شعوب المنطقة على قاعدة: ما كنتم تفعلونه قبل حرب إبادتكم على غزة، لن يعود بإمكانكم الاستمرار بفعله بعدها.تحاول واشنطن يوميّاً أن تنفي في تصريحات مسؤوليها أيّ ضلوع عسكري فعلي لها في الإبادة الجماعية في غزة، ضمن توجّه مفهوم لتقليص مستوى الضرر على مصالحها في منطقتنا، فيما يستمرّ مسؤولوها أنفسهم بترديد: «لا نرى أنّ وقف إطلاق النار الآن أمر مطروح، كونه سيفيد حماس». لأنّ تخرّصات الأميركيين حول إدخال المساعدات، والحرص على حياة المدنيين في قطاع غزة لا تنطلي على كل صاحب عقل، بدأ الإعلام الأميركي يسرّب عن مسؤولين أميركيين مضامين برقيات داخلية من سفارات أميركية في بلدان عربية إلى وزارة الخارجية، تتحدّث عن مخاوف الديبلوماسيين الأميركيين من «خسارة جيل عربي كامل»، على خلفية الدعم الأميركي غير المسبوق لحرب الإبادة الصهيونية في غزة. وكذلك بدأت مراكز فكرية، تعبّر عن مصالح الدولة العميقة الأميركية (كمجلس العلاقات الخارجية)، بالتعبير عن قلقها على مستقبل قوة أميركا الناعمة في منطقتنا والعالم، بعد هذه الحرب.
هم محقّون في التعبير عن مخاوفهم، فإذا كانوا فعلاً يفهمون توجّهات الشعوب وآراءها، عليهم من الآن فصاعداً أن يكفّوا عن طرح سؤالهم الغبيّ: «لماذا يكرهوننا؟». بالنظر إلى ما يجري، عليهم أن يفهموا أنّ الأمر لن يقتصر بعد اليوم على مجرد الكره. لقد أتت واشنطن بأساطيلها وديبلوماسيّيها وضباطها لتمكين إبادة شعبنا في غزة، وعليه، عليها أن تتوقّع الأسوأ من شعوبنا، بكل ما يتعلّق بأدواتها الناعمة، ومصالح شركاتها، وقدرة موظّفيها على ممارسة الديبلوماسية الشعبية، بل حتى مستقبل وجودها في منطقتنا. ما ينبغي علينا أن نُفهِمه لواشنطن هو الآتي: كما أنّكِ أعلنتِ أنه لم يعد مقبولاً لديك بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه في غزة قبل 7 تشرين الأول، نحن نخبرك بأنّه لم يعد مقبولاً بأن تأخذي راحتك في منطقتنا كما كنتِ تفعلين قبل 7 تشرين الأول.
المنطق يفترض أنّ واشنطن عندما قرّرت التقدّم لتمكين الكيان الصهيوني من إبادة الشعب الفلسطيني في غزة عسكرياً، ومالياً، وسياسياً، واستخبارياً، ودعائياً وإعلامياً، فهي حكماً هنا لم تكن تكترث لمصالح ومصير مجموعة الصيصان الذين يحقّقون لها مصالحها عبر الأدوات الناعمة بين ظهرانينا. لذلك، على أيتامها، الذين يعتاشون على ما تصرفه لهم ليقدّموا لها خدمات في حربها الناعمة على شعوبنا، أن يعوا قبل أيّ شيء أنّ واشنطن لا تكترث لكم ولمصيركم، وقد قدّمت لكم الدليل على ذلك بوضوح وصراحة.
على كل عملاء أميركا الصغار، الذين يبرّرون الإبادة الصهيونية في غزة، نزولاً عند رغبة واشنطن ومن معها من الأذناب الأوروبيين، من خلال المواقف المتلوّنة أو اللامواقف، أو خوفاً من عقابها لهم وقطعها التمويل عنهم، عليهم أن يُبقوا في أذهانهم أنّه في هذه الحرب برّرت حكومات الغرب الجماعي ولا تزال إبادة 2.2 مليون فلسطيني من دون أن يرمش لها جفن، في تعبير واضح عن طبيعتهم الإجرامية والإرهابية. وعليه، من حقّنا أن نعتبر نحن شعوب هذه المنطقة، من الآن فصاعداً، بعد أهوال ما رأيتم ورأينا من أميركا، أنّ إصراركم على خدمة الأجندة الأميركية سيضعكم أمام محكمة شعوبنا التي لن ترحم كل من برّر إبادتها. كما يقول الأميركيون: No More Business as Usual بعد انتهاء هذه الحرب، وسيكون من العار علينا أن لا نلاحق أدوات أميركا، الصغار منهم والكبار، إذا أصرّوا على البقاء على عمالتهم، كونهم سيكونون قد أعلنوها بصراحة: نحن وكلاء وعملاء من أراد إبادتكم في غزة، ونحن مصرّون على عمالتنا لهم، حتى بعد وقوع الإبادة.