منذ انتهاء الحرب بين ألبان كوسوفو والصرب عام 1999، عادت بريشتينا مراراً من حافة الصدام مع بلغراد. فالاستقرار في الإقليم الصربي الذي أَعلن استقلاله بدعم غربي عام 2008، لم يكن في يوم من الأيام، سوى استقرارٍ هشٍّ مفروضٍ بقوة «حلف شمال الأطلسي». لكن الاضطرابات التي لم تهدأ في المنطقة الشمالية المحاذية لصربيا، منذ بداية عام 2022 على الأقل، أيقظت على خطّ واشنطن - بروكسل هواجس اندلاع حرب في منطقة البلقان، «الخاصرة الرخوة» لأوروبا.جذور الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة الشمالية ترجع إلى تصميم الحكومة الكوسوفوية على فرض «سيادتها على كامل أراضيها»، في مقابل رفض الأقلية الصربية التي يعيش 50 ألفاً منها على الحدود مع صربيا، الاعتراف باستقلال كوسوفو. ومن خلف هؤلاء، تقف القيادة الصربية التي تعتنق عقيدة «صربيا الكبرى»، مُهددةً بالتدخل عسكرياً لحماية صرب كوسوفو من «حكومتهم الجديدة».
التوتّر بين الطرفين كان قد بدأ في نيسان 2022، بقرار بريشتينا حظر استخدام لوحات السيارات الصربية وفرض استبدالها بلوحات كوسوفوية، قبل تراجعها تحت الضغط الداخلي والخارجي. أعادت بريشتينا الكَرّة بعد أربعة أشهر، ليرُدّ رؤساء أربع بلديات شمالية صربية بغالبيتها، إضافةً إلى قضاة محلّيين وحوالى 600 من ضباط الشرطة الصرب، بالاستقالة من مناصبهم. وعلى رغم تعليق قرار حظر اللوحات الصربية تحت الضغط مجدّداً، أجّجت دعوة بريشتينا إلى انتخابات فرعية، غضب صرب كوسوفو، ليعلن أكبر حزب صربي مقاطعتها، ما أدى إلى تأجيلها إلى نيسان 2023. إلا أن المنطقة اشتعلت من جديد باعتقال شرطي سابق من أصول صربية، للاشتباه في ضلوعه بهجمات ضدّ ضباط شرطة من أصل ألباني. ردّ صرب كوسوفو على ذلك بقطع ممرات حدودية، فيما حشدت صربيا جيشها على الحدود، وتوعّدت بمنع كوسوفو من فتحها بالقوة، قبل أن يعود الطرفان من حافّة الصدام مجدّداً بعد تدخل أميركي - أوروبي.
لكن بريشتينا التي «لم تبلع كسرَ كلمتها» على يدّ «مواطنيها الصرب»، مضت في قرارها إجراء الانتخابات الفرعية، على رغم القرار الصربي بالمقاطعة. ونتيجة لذلك، لم تتجاوز نسبة المشاركة 3.5%، ما أدى إلى فوز ألبانٍ برئاسة 3 بلديات من أصل أربع، غالبيتها صربية. بهذا، وصلت الاضطرابات إلى ذروتها، وتحديداً بعدما أرسلت بريشتينا شرطتها الخاصة إلى الشمال لتأمين دخول «رؤسائها المنتخَبين» إلى مكاتبهم الرسمية، لتندلع موجة عنف أسفرت عن إصابة 93 جندياً في قوة «KFOR» الأطلسية المنتشرة في كوسوفو، بعضهم إصاباتهم خطيرة، إضافةً إلى حوالى خمسين مدنياً. كما دفعت صربيا من جديد بتعزيزات عسكرية إلى حدودها مع كوسوفو، قبل أن تحتجز ثلاثة شرطيين كوسوفويين بتهمة تجاوز حدودها، ما عدّته بريشتينا «عملية اختطاف من داخل أراضيها»، لينتهي الأمر بتسليمهم إلى الأخيرة تحت الضغط الخارجي.

واشنطن تلومُ حليفتها... وتعاقبها
غطّى ردّ الفعل الأميركي على الصدامات بين القوة الأطلسية وصرب كوسوفو، وسقوط عشرات الجرحى من الجانبين. فواشنطن، الداعمة الرئيسة لاستقلال كوسوفو، لم تصطفّ إلى جانب بريشتينا هذه المرّة، وإنّما ألقت باللوم عليها. لم تكتفِ بذلك، بل قامت مع بروكسل بمعاقبتها أيضاً. بالنسبة إلى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أدى قرار بريشتينا إلى «تصعيد التوترات بشكل حادٍّ ومن دون داعٍ، ما قوّض جهودنا للمساعدة في تطبيع العلاقات بين كوسوفو وصربيا، وهو ستكون له عواقب على علاقتنا الثنائية مع كوسوفو». وقال السفير الأميركي في كوسوفو، جيفري هوفينييه، إن الولايات المتحدة «ستتوقّف عن جميع الجهود لمساعدة كوسوفو في الحصول على اعتراف من الدول التي لم تعترف بها بعد، وفي عملية الاندماج بالمنظمات الدولية»، معلناً حرمان كوسوفو من المشاركة في «Defender Europe 2023»، أضخم مناورة عسكرية لـ«الناتو» في منطقة البلقان. أمّا بروكسل، فأوقفت زيارات مسؤولي بريشتينا إلى الاتحاد الأوروبي، وعلّقت جزءاً واسعاً من مساعدتها الاقتصادية للأخيرة. ويركز الجانبان للتراجع عن موقفهما، على مطالبة كوسوفو بإزالة ما يعتقدان أنه مسبّبات التصعيد، وهو ما أبدت بريشتينا رفضاً للرضوخ إليه، باعتبار أن «الإجراءات العقابية التي يتخذها الاتحاد الأوروبي غير عادلة وتجعل الحوار غير متكافئ»، وفق رئيس حكومة كوسوفو، ألبين كورتي.
ويعود التبدل في الموقف الأميركي - الأوروبي من بريشتينا إلى الحرب في أوكرانيا. إذ بات ترتيب «البيت الداخلي» الأوروبي بالنسبة إلى واشنطن وبروكسل بعد اندلاع الحرب، أولوية تتقدّم ما عداها، ولا سيما أنهما تعتقدان بمسؤولية روسيا عن زعزعة الاستقرار في منطقة البلقان، عبر صربيا. وبالتالي، وعلى رغم أنهما مَن دفعتا في اتجاه استقلال كوسوفو، ونشطتا منذ عام 2008 في تأمين أوسع اعتراف دولي بها، فهما لن تدفعا استقرار البلقان ثمناً لتثبيت «سيادة بريشتينا على أراضيها». وللطرفان كذلك مصلحة أخرى هو إرضاء صربيا، لسحبها بعيداً من روسيا، وحرمان موسكو من ورقة بلغراد في صراعها مع «الأطلسي»، مع الإشارة إلى أن الأولى هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي رفضت الالتزام بالعقوبات الأوروبية على روسيا.
أصيب 93 جندياً من «الناتو» في صدامات مع صرب كوسوفو


في المقابل، يعتقد القاضي الأميركي السابق في بعثة الاتحاد الأوروبي المعنية بسيادة القانون في كوسوفو، دين ب. بينليس، بأنه «من غير المعقول نزع شرعية كوسوفو في أعين العالم بعد أكثر من 20 عاماً من الدعم الأميركي القوي». وفي مقالة لموقع «Balkan Insight» المتخصص في شؤون البلقان، تحت عنوان: «هل تتخلّى الولايات المتحدة عن كوسوفو؟»، يرى بينليس أن واشنطن «لعبت لصالح صربيا وروسيا، وقدّمت لهما نصراً سياسياً لم يكن بإمكانهما تحقيقه بمفردهما، حتى في أحلامهما». ويلفت إلى انخراط صربيا «في حملة نزع الاعتراف وإلغاء التدويل لسنوات، في جميع أنحاء العالم»، معتبراً أن «لديها الآن Carte Blanche لمواصلة جهودها». وفي «فورين بوليسي» الأميركية، يكتب الخبير في إدارة النزاعات الدولية، إدوارد ب. جوزف، بعنوان «الولايات المتحدة تخلق أزمة كوسوفو»، أن «النهج الغربي يقوم على التناقض: يجب على كوسوفو تقديم تنازل بشأن الحكم الذاتي (لصرب كوسوفو)، لكن الغرب لا يمكنه إلا أن يعِد - في أفضل الأحوال - بإحراز تقدّم تدريجي في العلاقات مع صربيا (...) إن كوسوفو ليس لديها أيّ ضمان بشأن متطلباتها الاستراتيجية الأساسية».
في النهاية، رضخت بريشتينا مجدّداً لضغوط (حلفائها)، وتراجعت عن اندفاعتها لتثبيت سلطتها الكاملة. إذ أصدرت الحكومة الكوسوفية، الثلاثاء الفائت، بياناً أعلنت فيه أنها «لن تتّخذ أيّ إجراء من شأنه تصعيد الحرب في الشمال (...) وهذا يتضمّن تقليص وجود قوات الشرطة بواقع 25% داخل مباني البلديات وحولها»، مشيرةً إلى أنها ستنظّم انتخابات مبكرة في البلديات الأربع بعد «فصل الصيف».

تركيا وسيطاً... بدلاً من بروكسل؟
عقب الصدامات التي سقط فيها جرحى من «KFOR»، نشرت تركيا في كوسوفو، بطلب من القيادة المشتركة للقوة الأطلسية، كتيبة «كوماندوس» قوامها قرابة 500 جندي. ويعود اعتماد «الناتو» على تركيا في تعزيز قوات هناك، إلى العلاقة الخاصة، ذات الجذور التاريخية والثقافية والدينية التي تربط أنقرة ببريشتينا، علماً أن تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو. وتقوم السياسة التركية في هذا البلد على دعم «زيادة حضوره واستقلاله في المحافل الدولية، وحصوله على عضوية الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي، وتكامله مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الأوروبية الأطلسية». كما تؤيّد أنقرة «عملية الحوار بين بلغراد وبريشتينا التي تتم تحت إشراف الاتحاد الأوروبي»، وتلعب «دوراً نشطاً فيها بفضل علاقاتها الطيبة مع الطرفين». ومع تنامي شعورٍ بين ألبان كوسوفو بأن واشنطن وبروكسل قد تتخلّيان عنهم لصالح صربيا، يُنظر إلى تركيا على أنها قادرة على قيادة وساطة متوازنة بين بريشتينا وبلغراد، ومن خلفهما واشنطن وبروكسل وموسكو، توصل إلى أرضية مشتركة بين الطرفين، يمكن البناء عليها. ويُستدل على ذلك بنجاحها في اتباع سياسة خارجية متوازنة وفعالة بين روسيا والغرب في أوكرانيا، على رغم عضويتها في «الأطلسي».



طريق بريشتينا إلى بروكسل غير مُعبّدة
يرى الأوروبيون أن ضمّ منطقة البلقان إلى الاتحاد الأوروبي، هو الحلّ لتحصين القارة الأوروبية ضدّ «الخروقات والعبث الخارجي» بها. ولذلك، عقد الاتحاد، نهاية العام الفائت، «قمة تاريخية» مع دول البلقان الست، ولأول مرّة في دولة من دوله، هي ألبانيا (يضمّ البلقان إلى جانبها: صربيا، كوسوفو، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وشمال مقدونيا). وأعلن رئيس «المجلس الأوروبي»، شارل ميشيل، في ختام القمّة، اتخاذ «قرار بتسريع عملية انضمام غرب البلقان». وتقدّمت كوسوفو، عام 2022، بطلب رسمي للانضمام إلى «الاتحاد الأوروبي»، علماً أن الدول الخمس كانت قد سبقتها إلى ذلك. وطالبت بريشتينا في السابق بضمها وبلغراد في الوقت نفسه، كي لا تتمكّن صربيا من عرقلة ضمّها في حال دخلت قبلها إلى الاتحاد. ولا تُعدُّ طريق بريشتينا إلى بروكسل مُعبّدة؛ فبعيداً من صربيا، هناك خمس دول في الاتحاد لم تعترف باستقلال كوسوفو حتى الآن، هي: إسبانيا، قبرص، اليونان، رومانيا وسلوفاكيا.