وبدا لافتاً مزاج التوحّد بين العمّال والطلاب، إذ دعم كل منهما حراكات الآخر في الشارع، وهتفا معاً ضدّ رأس المال، وتضامنا في مواجهة قوات الشرطة التي تصدّت لهما وأطلقت قنابل الغاز المسيّل للدموع، واعتقلت بعضهم. ووفق بيان لـ«اتحاد طلاب المدارس الثانوية»، فإن «الطلاب حاصروا ما يصل إلى 300 مدرسة ثانوية، وكانوا في قلْب الحركة اليوم». وعُلم أن قوات الأمن عزّزت وجودها بـ 11 ألف عنصر إضافي لمنْع خروج الاحتجاجات عن السيطرة.
وانتهت تظاهرة باريس خارج مقرّ «الجمعية الوطنية» (البرلمان)، حيث كانت اللجان الفرعيّة قد شرعت في مناقشة مشروع القانون، فيما اقترح نواب أحزاب المعارضة أكثر من 7000 تعديل عليه في مسعى إلى إفراغه من مضمونه. من جهته، صرّح ماكرون، عشيّة التحرّكات، بأن «الإصلاحات (على نظام التقاعد) ضروريّة عندما نقارن أنفسنا ببقية أوروبا»، وبأنه يجب إجراء تغييرات «لإنقاذ» نظام المعاشات التقاعدية الحكومي الفرنسي (تُعدّ سنّ التقاعد الفرنسي الحالية، البالغة 62 عاماً، الأدنى في الاقتصادات الأوروبية الكبرى). أمّا وزير الداخلية، جيرالد دارمانين، فاستغلّ مناسبة الاحتجاجات لمهاجمة أعدائه الأيديولوجيين، متّهماً الأحزاب اليسارية بالدفاع عن «الكسل واشتراكية الشمبانيا». بدورها، قالت رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، إن رفْع سنّ التقاعد أمر «غير قابل للتفاوض»، على رغم الضغوط الشديدة التي تتعرّض لها لإجراء تعديلات، ولا سيما في ما يتعلّق بالنساء والأمهات اللواتي أنهين حياتهن المهنيّة لرعاية أطفالهن، وسيحصلن بالنتيجة على رواتب تقاعديّة أقلّ من الرجال. وشاركت نساء من كل الأعمار بكثافة في تحركات الثلاثاء.
ترى النقابات العمّالية أن إضافة سنتَين إلى سنّ التقاعد تمثّل هجوماً رئيساً على الطبقة العاملة
وسيحتاج حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (251 مقعداً)، الذي يفتقر إلى الغالبية المطلقة في البرلمان، إلى أصوات كتلة «الحزب الجمهوري» - يمين الوسط - (62 نائباً) لتجاوز عتبة الـ 289 مقعداً اللازمة لتمرير مشروع القانون. وأعرب عدد من نواب الكتلة الجمهورية عن انفتاحهم على فكرة دعْم مشروع الحكومة، في مقابل تحقيق بعض المطالب الحزبيّة. ولدى الحكومة أيضاً خيار تمرير مشروع القانون من دون المرور بالتصويت، بموجب سلطات دستورية خاصة، لكن ذلك قد يطلق محاولات لحجب الثقة عنها، وربّما الذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة. وتدفع مصالح الأعمال الكبرى، كما بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي في بروكسل تجاه رفْع سنّ التقاعد للفرنسيين، كإحدى أهمّ أدوات سدّ العجز في الموازنات العامّة، وفرْض نوع من الانضباط المالي في الجمهورية التي تتعرّض فيها دولة الرفاهية الموروثة من أيّام الإمبراطورية إلى ضغوط غير مسبوقة. ومن دون تقليل الإنفاق من الموازنات العامّة على معاشات التقاعد، فإن ذلك قد يعني أن فرنسا ستخالف قواعد سقف الدين العام المسموح به في دول الاتحاد الأوروبي.
ومثّل موضوع إصلاح الضمان الاجتماعي للمتقاعدين دائماً الحجر الأساس في أجندة ماكرون الداخلية منذ انتخابه رئيساً قبل ست سنوات تقريباً، وهو جدّد تعهّداته في هذا الشأن، العام الماضي، في خضمّ حملته للتجديد لفترة رئاسية ثانية، على رغم أن ذلك كلّفه وحزبه أصواتاً، وساهم - جزئيّاً على الأقلّ - في فقدانه الغالبية البرلمانية التي كان حزبه الليبراليّ التوجهات يهيمن عليها خلال فترة رئاسته الأولى. وقد حاول ماكرون اتخاذ خطوة مماثلة في عام 2019، لكنه أُجبر على العدول عنها بسبب الإضرابات الواسعة النطاق والتظاهرات الحاشدة التي نظّمها حراك «السترات الصفر» خلال الأزمة الوبائية. وتُجادِل الحكومة بأن عدم إدخال تغييرات على نظام المعاشات الحالي، سيؤدّي إلى تكرّس حالة عجز سنوي في الناتج المحلّي الإجمالي قد تصل إلى ما يقرب من 1% على مدى النصف الثاني من القرن الحالي، ما لم يطرأ تحوّل نوعي على إنتاجية الفرنسيين - وهو أمر مستبعد بالطبع -، أو يصار إلى زيادة الضرائب - وهذه سياسة غير واقعية بحكم أن فرنسا بالفعل واحدة من أعلى الدول الأوروبية لناحية نسبة الضرائب المحصّلة من الناتج المحلّي الإجمالي -، أو تنتهي الحكومة إلى توسيع مساحة الدَّين العام الذي يتجاوز حالياً 113% من الناتج المحلّي، ما يضع علاقة باريس ببروكسل في مكان حرج. على أن المعارضة (أحزاب أقصى اليمين كما اليسار) والنقابات العمّالية لا تتّفقان مع هذا التقييم، إذ يقول رئيس «المجلس الاستشاري المستقلّ للمعاشات التقاعدية» إن «الإنفاق على المعاشات التقاعدية ليس خارج نطاق السيطرة، بل جرى احتواؤه نسبيّاً».
وترفض غالبية الفرنسيين مبدأ إجراء تعديلات على النظام التقاعدي، وترى أن مشروع ماكرون محاولة للانتقاص من مكتسباتها الشخصيّة. وبحسب استطلاعات الرأي الأحدث، فإن أكثر من ثلثَي الجمهور يعارضون ذلك، في وقت تراجعت فيه شعبيّة ماكرون وبورن بشكل حادّ. وتعتبر النقابات العمّالية أن إضافة سنتَين إلى سنّ التقاعد تمثّل هجوماً رئيساً على الطبقة العاملة، لكن السلطة تبدو عازمة على إنهاء مكاسب دولة الرّفاه والرعاية الاجتماعيّة بالاستفادة من الأوضاع الاقتصادية الضاغطة بسبب انعكاسات الصراع الروسي - الغربي في أوكرانيا، وأن العمّال سيضطرّون إلى دفْع ثمن التضخم والرّكود الاقتصاديّ المحتّم من مدخولهم. لكنّ النقابات، بحكم غياب مشروع ثوري متكامل، لا تبدو مع ذلك قادرة على فعل الكثير في ظلّ تعنّت الحكومة التي يرى كثيرون أنها لا تمانع في تعبير الفرنسيين عن غضبهم بسبب عجزهم عن مواجهة التغييرات البنيوية التي تمسّ دولة الرعاية الاجتماعيّة، لكنّها ستمرّر القانون بشكل أو بآخر. وقد اتّسمت الاحتجاجات، حتى الآن، بروح الدعابة والإضرابات الجزئية والتحرّكات السلمية بشكل عام. وطالما بقيت الأمور على هذه الحال، فإن انتصار ماكرون في النهاية سيكون محتّماً.