أغلبية إسرائيلية ترى أن اضطهاد الفلسطينيين أمر طبيعي الهجمات الإسرائيلية المحدودة ضدّ إيران تتمّ بموافقة أميركية

فاجأ تحوُّل القوى الفاشية إلى لاعب مركزي على الساحة السياسية الإسرائيلية، عدداً كبيراً من الباحثين والمحلّلين الذين كثيراً ما تغنّوا بفضائل نظامها الديموقراطي، وقدرته على إدارة تناقضاتها الداخلية ومنْع تأجُّجها، على رغم الصراع المديد بينها وبين دول وشعوب المنطقة. لم يكن الإعجاب بالديموقراطية الكولونيالية الإسرائيلية حكراً على أنصارها، بل إن الكثيرين من خصومها تبنّوا عن غير وعي سرديتها عن نفسها. سيلفان سيبيل، الكاتب والصحافي الفرنسي المتخصّص في الشؤون الإسرائيلية، حذر من جهته، منذ صدور كتابه الأوّل «المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق مسدود» في 2006، من تنامي النزعة الفاشية، وصيرورتها، بسبب الطبيعة الكولونيالية لهذا المجتمع، تيّاراً رئيساً في داخله، يعيد صياغة نظامه السياسي. سيبيل، الذي قدّم في مقابلة مع «الأخبار» قراءته لخلفيات تشكيل حكومة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش، كاتب في موقع «شرق 21»، وعضو سابق في رئاسة تحرير «لوموند»، ومدير سابق لأسبوعية «كوريي إنترناسيونال»، ومؤلّف كتاب «دولة إسرائيل ضدّ اليهود» الصادر في 2020
(من الويب)

تخوَّف الكثيرون بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية من تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، لكن زيارات المسؤولين الأميركيين المتوالية لإسرائيل، والتأكيدات على التنسيق المشترك ضدّ إيران، تُظهر قوّة هذه العلاقات، بخاصة على المستوى الاستراتيجي، وأن القصف الذي تعرّضت له منشآت إيرانية في الأيام الماضية، وهو قصف إسرائيلي على الأرجح، جرى بموافقة واشنطن. ما هو رأيكم بذلك؟
- تبْقى الولايات المتحدة الحليف الرئيس لإسرائيل، وهناك توافق بينهما ضدّ إيران. لكن البعد الغائب حتى الآن، عند تحليل هذه العلاقات، هو ذلك المرتبط بمعرفة المدى الفعلي لهامش استقلالية الإسرائيليين، وقدرتهم على الفعل، وما الذي لا يستطيعون القيام به من دون موافقة أميركية مسبقة، وما الذي بمقدورهم المبادرة إليه بمعزل عن مِثل هذه الموافقة. لقد أصبح من المعروف أن إدارتَي أوباما وترامب أبلغتا الإسرائيليين عدم استعدادهما للمشاركة في ضربة تُفضي إلى حرب مع إيران، وبما أن قيادة الأركان في إسرائيل كانت معارضة لهجوم تشنّه الأخيرة وحدها، فإن ذلك لم يحصل. ما تمّ أخيراً هو هجمات محدودة، وليس ضربة واسعة النطاق، وهو من نمط العمليات التي يسبقها عادة إبلاغ إسرائيل الأميركيين بما ستبادر إليه. بشكل عام، ليست لدى الأميركيين للأسف نيّة لإعادة النظر في ما يَعتبرونه مصالح حيوية مشتركة مع الإسرائيليين. هناك تيّار في الحزب الديموقراطي يطالب بالقيام بمراجعة مسألة الدعم العسكري الأميركي السنوي لإسرائيل، وهو 3.3 مليار دولار، لكن هذا الموقف لا يجد أصداء في البيت الأبيض. هذا الواقع لا يلغي وجود تباينات أضحت أكثر وضوحاً بين مصالح الطرفَين، متّصلة بتحوّلات المجتمع الإسرائيلي من جهة، وبتلك الجارية في قطاعات معتبَرة من المجتمع الأميركي من جهة أخرى. الدعوة إلى مساندة غير مشروطة لإسرائيل باتت محصورة في أوساط اليمين واليمين المتطرّف الأميركي، بينما كان هذا الموقف في الماضي سائداً في جميع قطاعات الرأي العام الأميركي. ولا شكّ في أن التحوّلات التي أشرت إليها في المجتمع الإسرائيلي، وما ينجم عنها بالنسبة لنظامه السياسي، هي التي تفسّر مِثل هذا التغيّر.
التيّار الصهيوني الديني لا يعير الطبيعة الديموقراطية للدولة أدنى أهمية


ما هو العامل الحاسم، أو العوامل الرئيسة التي أدّى تفاعلها، إلى صيرورة اليمين المتطرّف قوة أساسية في المشهد السياسي الإسرائيلي؟
- أعتقد أن العامل الحاسم هو الاحتلال وما يستتبعه من سياسات يومية. تعزيز دور العامل الديني شديد الأهمية بكلّ تأكيد، غير أن الاحتلال وما يَنتج منه من منطق عام استعماري، من مِثل مقولة «التفوّق اليهودي»، وهي تعني العنصرية ببساطة، تَعزّز بشكل هائل. منذ 55 عاماً، تخضع الأراضي المحتلّة للسيطرة الإسرائيلية، ما يعني أن عشرات الأجيال من الإسرائيليين، الذين تتراوح خدمتهم العسكرية بين السنتين والسنتين ونصف سنة، قد أسهموا، كلّ على المستوى الفردي، في هذه العملية. نحن نتحدّث تقريباً عن أكثر من 25 جيلاً. اعتاد هؤلاء أن يكونوا في موقع المسيطر والمتحكّم بمصائر المدنيين الخاضعين للاحتلال. هذا هو الوضع الطبيعي بنظرهم. لا حاجة إلى إطالة الحديث عن ماهيّة ظروف الاحتلال. أيّ إسرائيلي يبلغ من العمر اليوم 65 سنة، كان في سنّ الـ10 في 1967. الطبيعي بالنسبة إليه هو أن يكون الشعب الواقع تحت الاحتلال محروماً من حقوقه الرئيسة، وأنه هو الجهة التي تمثّل الحق والقانون، وأن تَعارض هذا الواقع مع القانون الدولي لا أهمية له. اعتاد الإسرائيليون على هذا الوضع، وأصبحوا يرونه شرعياً وطبيعياً. بكلام آخر، تمّ بناء نظام أبارتهايد تدريجاً، وجرى تسويغه تدريجاً أيضاً. التقيتُ بجنود إسرائيليين أعضاء في جمعية «كسر الصمت» التي تكشف الممارسات اليومية لجيش الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين، أفراداً وعائلات. الإسرائيليون يدركون ما يفعلونه بالفلسطينيين، لكن المنطق التبريري الذي تبلور ونما في أذهانهم يشرعن ذلك. النتيجة المباشرة هي تجذُّر الموقف العنصري حيال الشعب الذي يتعرّض للاضطهاد. الجانب الآخر يرتبط بالقوّة المتزايدة للعامل الديني، ومركزية مفهوم «أرض إسرائيل» المتأتّية عنه. في 1948، المهمّة الحيوية كانت إنشاء دولة، غير أن التيّار الصهيوني الديني نجح في فرْض هذا المفهوم، أي «أرض إسرائيل». هذا التيّار لا يعير الطبيعة الديموقراطية للدولة أدنى أهمية. شيلدون أديلسون، الملياردير اليهودي الأميركي، سُئل يوماً عن مفاعيل استمرار إخضاع الفلسطينيين للاحتلال، والتنكيل بهم، على النظام الديموقراطي، فأجاب: «بحسب معرفتي، لا يَرد مفهوم الديموقراطية في التوراة». هناك مَن يعتقد في داخل هذا التيّار أن لا مبرّر لوجود محكمة عليا، بمعزل عن رأينا نحن بها. تقديس الأرض هو سِمة مشتركة لجميع تيّارات اليمين المتطرّف عبر العالم. الأرض، بنظر أنصار هذا التيّار، مقدّسة لأنها يهودية. قادة الحركة الصهيونية في الماضي كانوا من العلمانيين، ويقال إن بن غوريون كان يأكل لحم الخنزير حتى في عيد «يوم الغفران» اليهودي، لكن موقفهم من الدين كان ملتبساً. فهُم كانوا يعتبرون أن التوراة تروي سيرة شعب. التوراة كتاب يضمّ مجموعة من الأساطير التي لا تجد أسانيد على أرض الواقع من خلال الآثار. نحن لا نعرف إن كان سليمان شخصية تاريخية حقيقية، أو إن كانت أورشليم التي تتحدّث عنها التوراة هي القدس الحالية، والنقاش حول هذه المواضيع ما زال دائراً إلى اليوم بين علماء الآثار حتى في إسرائيل. لكن، وبمعزل عن الواقع التاريخي، فإن الحجج الدينية من نوع «هذه أرضنا لأن الله منحها لنا»، تعطي لأصحابها نوعاً من الشرعية الملائمة لتبرير مشاريعهم ومخطّطاتهم.

لقد أشرتُم في مداخلات عدة إلى أن الخطاب الإسرائيلي الذي بات سائداً حول تاريخ الصراع في فلسطين، مؤشّر بذاته إلى صعود الفاشية. هل من الممكن توضيح ذلك؟
- في العقود الماضية، كانت السردية السائدة في إسرائيل حيال النكبة، هي أن الفلسطينيين رحلوا بملء إرادتهم أو استجابة لدعوات عربية. شدّد بن غوريون، بعد حرب 1948، على ضرورة تكرار هذه السردية طوال الوقت، وجوهرها أن الإسرائيليين لم يَطردوا أيّ فلسطيني. لا تتردّد أوساط واسعة ومتنوّعة داخل إسرائيل، وبينها أناس عاديون وأساتذة جامعات، في الإقرار بحقيقة ما تعرّض له الفلسطينيون من قتل وتنكيل وتهجير، وتوجيه النقد إلى بن غوريون لأنه لم يطرد مَن بقي منهم في أراضي 1948. هناك تغيّر جوهري لا مجال لتجاهله. في الماضي، جرى تلقين أجيال من الإسرائيليين أن دولتهم لم ترتكب جرائم، بينما ما يقال اليوم إن المطلوب، إذا توافرت الفرصة، هو الخلاص من جميع الفلسطينيين، وعدم تكرار «خطيئة» بن غوريون. بكلام آخر، لا أهمية لمواقف بقيّة العالم ممّا نفعله. نحن نقوم بما نعتقده مناسباً لنا. هذا تحوّل كبير على مستوى الذهنيات، وهو من السِمات المميزة للفاشية. المشكلة الفعلية هي أن إسرائيل في الواقع تتصرّف وفقاً لما تراه مناسباً لأنها تتمتّع بحصانة تضعها فوق القوانين والقرارات الدولية. وهذا ما يفسّر عنفها المنفلت من عِقاله والمتعاظم ضدّ الفلسطينيين. ولا شكّ في أن التحوّلات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي قد أسهمت في الدفع في هذا الاتّجاه. في 1988، وفي ظلّ حكومة ترأّسها أحد أقطاب اليمين الإسرائيلي المتشدّد، إسحاق شامير، مُنع الحاخام مئير كاهانا من المشاركة في الانتخابات بسبب مواقفه العنصرية الفجّة، وما ستُلحقه بإسرائيل من سمعة سيّئة. اليوم، وصل تلميذه النجيب، إيتمار بن غفير، ومَن على شاكلته، إلى أرفع المناصب في الحكومة الإسرائيلية الراهنة.

ما هي الصلة بين المآل الحالي للمجتمع الإسرائيلي والطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني؟
- إذا أردنا تعريف الصهيونية من منظور راهن، فإن بإمكاننا القول بأن أهدافها تتلخّص في الاستيلاء الكامل على الأرض والسعي لطرد الفلسطينيين. هي حركة ذات طبيعة عنصرية واستعمارية أساساً، والمآل الحالي للمجتمع الإسرائيلي وثيق الصلة بهذه الطبيعة.

الكاتب الفرنسي المتخصّص في الشؤون الإسرائيلية