أثار الهجوم المسلَّح الذي أقدم عليه شخص يحمل الجنسية الإيرانية على السفارة الآذربيجانية في طهران، ردود فعل عالية السقف في كلّ من باكو وأنقرة. ومع أن السلطات الإيرانية قالت إن الهجوم كناية عن "عمل فردي"، وأسبابه "عائلية"، إلّا أن الرواية الآنفة لم تُقنِع سلطات باكو، فيما وضع المحلّلون الآذربيجانيون ما جرى في سياق التوتّر المفتوح بين البلدَين منذ انتهاء الحرب بين أرمينيا وآذربيجان في مطلع خريف عام 2020. وعرضت السلطات الآذربيجانية شريطاً مصوّراً يُظهر أن حرس السفارة الإيرانيين لم يتدخّلوا في الهجوم، فيما دخل المهاجِم مبنى الممثليّة الدبلوماسية وهو يحمل سلاحاً حربيّاً من طراز "كلاشينكوف"، حيث أَطلق النار على موظّفي الأمن الآذربيجانيين في الداخل، فقتل أحدهم وجرح اثنين آخرين، وقد اعتقلته السلطات الإيرانية بعدما حاول الهرب. لكن المثير، بنظر باكو، هو أن تُجري قناة إيرانية مقابلةً مع المعتدِي بعد اعتقاله، علماً أن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، طلب إجراء تحقيق شامل في الحادثة.وبمعزل عن التفاصيل الكثيرة للحادثة، إلّا أنها لا تخرج عن كونها محطّة في سياق تطوّرات متلاحقة شهدتها العلاقات الثنائية في السنتَين الأخيرتَين. غير أن اللافت بعد هجوم السفارة، كان النبرة العالية السقف المعادية لإيران، من جانب مسؤولين ومحلّلين آذربيجانيين. وفي ردّهما على ما جرى، دان الرئيس إلهام علييف، ونائبته مهريبان - والتي هي في الوقت نفسه زوجته -، الهجوم الذي وصفاه بـ"الإرهابي"، ورأى الرئيس أن الهجمات على البعثات الدبلوماسية أمر غير مقبول. كذلك، طالب بيان صادر عن البرلمان الآذربيجاني بتحقيق شامل في الهجوم، محمّلاً إيران "المسؤولية الكاملة" عمّا جرى، ومعتبراً أن "التصريحات الإيرانية حول الهجوم الإجرامي غير مقبولة". من جهته، لم يتأخّر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في الردّ على الهجوم، فوصفه بـ"الشنيع"، مجدّداً وقوف بلاده إلى جانب "الشقيقة" آذربيجان.
في هذا الوقت، قالت الصحف الآذربيجانية إن باكو حذّرت طهران من تهديدات تتلقّاها سفارتها لديها، وإنها دعتْها إلى تعزيز الإجراءات الأمنية حولها، لأنّ "لعدم إظهار الحساسيّة اللازمة، عواقب وخيمة". وفي هذا الإطار أيضاً، شنّت صحيفة "آذربيجان" الحكومية، في افتتاحيتها أول من أمس، هجوماً عنيفاً على إيران، التي حمّلها الكاتب رشاد جعفرلي مسؤولية الهجوم. ذلك أنها "لم تهضم"، حتى الآن، انتصار آذربيجان في الحرب ضدّ أرمينيا. وقال إن الجمهورية الإسلامية لم تقم بأيّ مناورة عسكرية قرب آذربيجان على امتداد 30 عاماً، لكنّها، منذ "الحرب الوطنية" الأخيرة، أجرت ثلاث مناورات عسكرية في غضون سنتين، وتدرّبت على عبور نهر أراس الذي يفصل بينها وبين جارتها، بالدبابات، عازياً ما تقدّم إلى انزعاج طهران من الاتفاق على "ممرّ زينغيزور"، ولا سيما أنها قالت إنها لن تسمح بتغيير الوضع على الحدود. وجاء في الافتتاحية، أن الجمهورية الإسلامية تمارس سياسة "إرهاب الدولة"، وأن الهجوم يشكّل اعتداءً على آذربيجان.
لم يستبعد البعض تورّطاً أميركيّاً وإسرائيليّاً في الحادثة لتكوين مناخ جنوب قوقازي معادٍ لإيران


وفي هذا الجانب، رأى النائب الآذربيجاني، ألمان نصيروف، أن العلاقات بين باكو وطهران تمرّ بمرحلة معقّدة، وأنه ستكون للهجوم "تأثيرات خطيرة"، وخصوصاً أنه مختلف عن الهجمات السابقة التي تعرّضت لها الممثليّات الدبلوماسية الآذربيجانية حول العالم، حيث لم يسقط فيها قتلى، بينما قتل رئيس الأمن في السفارة في طهران، داعياً إيران إلى الاعتذار عن الحادثة. وفي الموازاة، كتب ألشاد باشاصوي، في صحيفة "مساوات"، أن الجمهورية الإسلامية لم تتوقّف يوماً عن الوقوف إلى جانب أرمينيا، وهي أعلنت أن الحدود الأرمينية "خط أحمر". وقال إن التهديدات الإيرانية لآذربيجان ازدادت بعد فتح السفارة الآذربيجانية لدى إسرائيل في أيلول عام 2020، داعياً إلى تشكيل فريق تحقيق مشترك في الحادثة.
من جهته، رأى فريد شافياف، رئيس "مركز تحليل العلاقات الدولية" في آذربيجان، أن الهجوم ينتهك "اتفاقية فيينا" لعام 1961، معتبراً أنّ "من الصعب تصديق أن الهجوم فردي في بلد يصعب فيه اقتناء أيّ شخص بندقية كلاشينكوف. وبمعزل عن ارتباطات هذا الشخص، فإنّ على إيران تحمّل المسؤولية". وبحسب شافياف، فهي شنّت، أخيراً، حملة عنيفة وسلبية ضدّ آذربيجان، فيما شكّل الهجوم "ضربة قوية جداً" للعلاقات بين البلدَين، معتبراً أنها "قلقة من انتصار آذربيجان على أرمينيا، كما من التقارب بين باكو وأنقرة". أمّا جاويد والييف، الخبير الآذربيجاني في الشؤون الدولية، فقال إن الإعلام الإيراني يشنّ، منذ وقت طويل، حملة منظّمة ضدّ باكو، وأن القوى المعادية لبلاده في إيران تقف وراء هذا الهجوم، وليس "ممر زينغيزور سوى ذريعة لهذه الحملات المستمرّة منذ ثلاثين عاماً".
ولم تتخلّف بعض الصحف التركية الموالية لإردوغان عن الصحف الآذربيجانية في تحميل إيران مسؤولية الهجوم. إذ قالت صحيفة "يني شفق" إن السبب الرئيس للتوتّر بين البلدَين، هو العلاقات السيئة في الآونة الأخيرة بينهما، بعدما وقفت إيران إلى جانب أرمينيا في الحرب حول قره باغ، قبل عامين. ومن بعد ذلك، أَطلقت إيران مناورات عسكرية على الحدود مع آذربيجان بقصد "الترهيب". وأضافت الصحيفة إن العلاقات الوثيقة بين هذه الأخيرة وإسرائيل شكّلت مشكلة أخرى بين البلدَين، فقد اشترت باكو من تل أبيب الأسلحة، وعيّنت سفيراً لها هناك.
ولا شكّ في أن اتفاقية العاشر من تشرين الثاني 2020 بين أرمينيا وآذربيجان برعاية روسية، كانت مقلقة بالنسبة إلى إيران، حيث لحظت الاتفاقية فتح خط مواصلات بين نخجوان التابعة لآذربيجان والأراضي الآذربيجانية عبر الأراضي الأرمينية وبحماية من القوات الخاصة الروسية. ومثل هذا الممرّ الذي يُعرف بـ"ممر زينغيزور" يهمّش من دور إيران الجغرافي في جنوب القوقاز، إذ يؤمّن للمرّة الأولى في التاريخ ربطاً بريّاً لتركيا بآذربيجان والعالم التركي في آسيا الوسطى، بعيداً من الوصلة الجغرافية لإيران.
وعلى الرغم من ذلك، لم يستبعد البعض تورّطاً أميركيّاً وإسرائيليّاً في الحادثة لتكوين مناخ جنوب قوقازي معادٍ لإيران، ومنْع تحويل هذه المنطقة إلى منطقة تعاون إيراني - روسي، ولا سيما بعد التقارب الوثيق بين البلدَين على خلفية الحرب الأوكرانية. وبدا لافتاً أن دول الاتحاد الأوروبي تحاول التغلغل في القوقاز عبر قرار إرسال بعثة مراقبة لتثبيت السلام على الحدود بين أرمينيا وآذربيجان من دون استشارة أفرقاء النزاع. وقد رفضت موسكو، في بيان لها، إرسال البعثة، واعتبرته محاولة لتخريب الاستقرار وتقليص النفوذ الروسي في المنطقة المعروفة تاريخيّاً بأنها حديقة خلفية لروسيا.