بين مَن يعتقد بتجدُّد الريادة الأميركية ومَن يرى عودةً لنمط معاصر من الحرب الباردة والاستقطاب الدولي، تتعدَّد التأويلات حول مفاعيل الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الشاملة. برتران بديع، عالم السياسة «الفرنسي-الفارسي»، كما يُعرِّف نفسه في كتابه الأخير المخصّص لسيرته الذاتية «بين ثقافتَين: أن تكون فرنسياً-فارسياً»، مقتنع، من جهته، بأن الأدوات النظريّة والمفهوميّة، الموروثة من «ماضٍ لن يتكرّر بفعل التغييرات الهائلة التي شهدها الواقع» - كما يحرص على التذكير - لن تسمح بفهم دقيق لِما يجري، ولا باستشراف صائب للمستقبل. الرَجل الذي توقَّع في مؤلّفه «عجْز القوّة العظمى»، في 2004 - أي بعد سنة على غزو العراق - فشل مشروع «القرن الأميركي الجديد»، ومعه المسعى إلى «إعادة صياغة الشرق الأوسط»، يجزم، اليوم، بأن المقاربات الجيوسياسية التي تَحكم سياسات القوى العظمى لن تُحقِّق مراميها، نتيجةَ تجاهلها لحيوية الديناميات الاجتماعية الخارجة عن سيطرتها، والميْل المتزايد لقسم كبير من اللاعبين الدولتيّين وغير الدولتيّين للعمل وفقاً لأجندتهم الخاصّة، بدلاً من الانضباط تحت سقف أجندات هذه القوى العظمى. بادي، الذي كان قبل تقاعده أحد أركان «معهد العلوم السياسية» في باريس، وصاحب الكثير من المؤلّفات، بينها «الدولة المستورَدة»، و«لم نَعُد وحدنا في العالم»، و«تفاعل المجتمعات: العالم لم يَعُد جيوسياسياً»، والذي أَشرف مؤخّراً، مع دومينيك فيدال، على إصدار تقرير «حال العالم» السنوي بعنوان «العالم لن يعود كما كان»، قدّم، في مقابلة مع «الأخبار»، قراءته للتحوّلات البنيويّة التي تعصف بالعلاقات الدولية، والتي تعكس، بمعزل عن الاتفاق مع مضمونها، وجهة نظر خبير بارز في الأكاديميا الفرنسية والغربية.

المقاربة الجيوسياسية للوضع الدولي تَفرض نفسها مجدّداً مع انفجار النزاع المعولم في أوكرانيا، والذي سبقته إشارات متكرّرة في وثائق الأمن القومي والدفاع الوطني الصادرة عن إدارتَين أميركيتَين متعاقبتَين إلى صعود الدور الدولي للمنافسين الاستراتيجيين. تَعتبرون، من جهتكم، أن مثل هذه المقاربة تتعامى عن عوامل أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية تُسهِم بشكل حاسم في إعادة تشكيل المشهد السياسي العالمي. ما هي هذه العوامل، وإلى أيّ مدى تبطل صوابية المقاربة الجيوسياسية؟
- ينبغي الانطلاق من فكرة بسيطة: لا عودة إلى الوراء في التاريخ. السياقات العامة تتغيّر باستمرار. الحديث عن عودة الحرب الباردة ومعسكراتها هو خطأ جسيم، لأنها إسقاطات من مراحل انقضت على الحاضر. الواقع الراهن يتناقض لدرجة كبيرة مع ذلك الذي ساد في الماضي، والذي كان محكوماً بالعوامل السياسية - العسكرية. العولمة عزَّزت دور العوامل الاقتصادية، وأضعفت وزن الأيديولوجيا لمصلحة سياسات شديدة البراغماتية. الأمر نفسه ينطبق على مفهوم السيادة الذي كان مطلقاً، لكنه انحسر لمصلحة نموّ التبعية المتبادَلة. الأولويّة كانت للعامل السياسي، لكنّنا نلحظ أن العامل الاجتماعي أصبح «يسابقه على الأولوية»، إنْ صحّ التعبير. العالم لم يَعُد أسيراً للجغرافيا، والعامل السياسي الذي طغى، وخاصة خلال الحروب، بات يتفاعل مع عوامل أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية.

الحديث عن عودة الحرب الباردة ومعسكراتها هو خطأ جسيم (من الويب)

إذا أخذنا الحرب الأوكرانية كمثال، فسنجد أنها تحوّلت بسرعة إلى حرب اجتماعية أَفشلت خطة (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين باحتلال كييف، على الرغم من أن الجميع توقّعوا سقوطها خلال بضعة أيّام. شهدنا تحوّلات مماثلة في حقبة حروب التحرُّر الوطني ضدّ الاستعمار الغربي. النقطة الأخرى التي أبرزَتها هذه الحرب، وهي طبيعتها المعولمة، ترتبط بما أُسمّيه «أثرها الإشعاعي» على الكوكب بمجمله. تداعياتها في مجالات كالغذاء والطاقة والاقتصاد بشكل عام، وما قد يترتّب عليها من أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة تتجاوز ساحة المعركة، تُمثّل تحدّياً للمنطق السياسي بمعناه التقليدي. لا يستطيع أيّ لاعب سياسي، أو أيّ فاعل استراتيجي، وفقاً للمصطلح المستخدَم في التحليل الجيوسياسي، إدارة هذه المفاعيل «الإشعاعية» على النظام العالمي برمّته.

لكن الدعم الغربي غير المسبوق عسكرياً واقتصادياً ومالياً لأوكرانيا، ألا يشي، بنظركم، بديمومة المقاربات الجيوسياسية لدى القوى الغربية، والسعي المحموم للحفاظ على هيمنتها المتراجعة؟
- ليس في مقدور أحد إنكار استمرار الصراعات والنزاعات بسبب انتهاء صلاحية المقاربة الجيوسياسية. النزاعات تقود بطبيعة الحال إلى تعبئة الموارد العسكرية، وما لا شكّ فيه هو أن غالبية الدول، ونُخبها الحاكمة، ما زالت أسيرة المنطق الجيوسياسي، وترسم سياساتها بالاستناد إليه. هذا هو الخلل الرئيس الذي ظهرت نتائجه في أفغانستان والعراق ومنطقة الساحل في أفريقيا، والآن في أوكرانيا. نحن أمام بنية مركّبة تضمّ عالمَين. الأول هو العالم الواقعي، وجوهره اجتماعي، عبّر عن نفسه خلال الاحتجاجات والانتفاضات المتتالية، ومنها «الربيع العربي» مثلاً، والثاني هو عالم الحاكمين، الذي ينتمي إلى زمن سابق، بما في ذلك على مستوى ثقافة نُخبه وتصوّراتها، ويعيد إنتاج سياسات الهيمنة والعسكرة بالارتكاز إلى هذه التصوّرات. بطبيعة الحال، فإن الغرب يَعتمد، حيال الأزمة الأوكرانية، موقفاً يتضمّن - برأيي - جانباً إيجابياً، وهو التمسُّك بالقانون الدولي؛ وآخر سلبياً، وهو محاولة توظيف هذه الأزمة ضمن استراتيجية استقطابية، تتعمّد الدمج بين أحكام القانون الدولي وقيم الغرب ومصالحه. هو يستخدم أيضاً لهذه الغاية تحالفاً غربياً فاقداً للصلاحية، حلف «الناتو»، ما يعزّز الاقتناع في بلدان الجنوب بأن المواجهة الراهنة لا تعنيها، لأنها بين هذا الحلف وروسيا. الخطيئة الأصلية للدول الغربية هي حفاظها على «الناتو» بعد نهاية الثنائية القطبية، كأداة لمشروع هيمنة مديدة على العالم.

بين السمات الجديدة للوضع الدولي تجلّى نمط جديد من العلاقات بين الدول، أطلقتم عليه تسمية «التواطؤ المتقلّب»، في مقابل اتجاه التحالفات الثابتة إلى التفكُّك. هل سيصبح «التواطؤ المتقلّب» نمطاً سائداً في العلاقات الدولية؟
- لقد خلقت العولمة جملة من الفرص المفاجئة انتهزتها دول، كانت في ما مضى حليفة وفيّة لهذا المعسكر أو ذاك، لتوسيع هامش استقلاليتها والإفادة من مكاسب ظرفيّة. بروز الثنائي «بوتين - إردوغان» كان اللحظة التأسيسية لهذه الدبلوماسية الشديدة السيولة، والتي يَغلب عليها التواطؤ الظرفي، وليس الانسجام الكامل في الأهداف. أمامنا زعيمان يتواجهان في القوقاز، وفي سوريا وليبيا، لكنّهما يتعاونان في العديد من المجالات الأخرى. مثال آخر لافت، هو الصلة المتنامية بين روسيا والسعودية في ظل ما تتيحه أزمة الطاقة العالمية من فرص للبلدَين. الأمر نفسه ينسحب على علاقات بوتين بالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ما أتاح لهذه الأخيرة بأن تستمرّ بقصف مواقع «حزب الله» في سوريا، وحتى مطار دمشق أخيراً. هذا النوع من التواطؤ لم يكن قابلاً للتصوّر أيّام الحرب الباردة. تغيّرت قواعد الدبلوماسية. التحالفات المسقرّة كانت من ثوابت المقاربة الجيوسياسية، لكن ما يغلب اليوم، إنْ أردنا استعارة تشبيه من الحياة المعاصرة، هو «الاتحاد الحرّ» بدلاً من الزواج الرسمي. هذه الصيغة مناسبة لبوتين، لأنها حالت دون عزْله على الساحة الدولية، وحدّت من وقْع العقوبات التي فُرضت على روسيا.

لكن التحالف الوحيد الذي بقي ثابتاً هو ذلك الغربي، ومع قيادة عسكرية مندمجة تتزعّمها واشنطن. ألا تعتقدون بأن بقاء هذا التحالف، والسياسات التي يعتمدها تجاه روسيا والصين سيقود إلى تشكل حلف مقابل له؟
- لا أعتقد ذلك. «الناتو» ليس قطباً، وبين أطرافه تناقضات عديدة. منظور بولندا ودول البلطيق للوضع الدولي مخالف جداً لذلك الخاص بألمانيا وفرنسا وإسبانيا مثلاً. وبوتين مدرك أن المكاسب التي سيجنيها من «التواطؤ المتقلّب» مع دول «البريكس» أو مع السعودية وبلدان الخليج أهمّ بكثير من تلك التي سيحقّقها إذا شرع بإنشاء «حلف وارسو» جديد، لن يضمّ عدداً كبيراً من الدول بكل تأكيد، إذا استثنينا بيلاروسيا وكوريا الشمالية وربّما سوريا. بوتين لم ينتصر عسكرياً، لكنه حقّق نجاحات فعلية دبلوماسياً. احتفاظه بعلاقات وثيقة مع دول مهمّة، مثل الصين والهند وحتى باكستان، المعادية منذ نشأتها للسوفيات ولروسيا، والحليفة التاريخية للغرب. هو استطاع أيضاً توسيع دائرة نفوذه في أفريقيا. الطرف الذي تأخّر عن ركوب قطار هذا النمط الجديد من الدبلوماسية الشديدة السيولة، هو الغرب.

استفادة خصوم الولايات المتحدة من إصرارها على سياسة الاستقطاب والعسكرة لا تلغي حقيقة وجودها، ولا التبعات الناجمة عنها بالنسبة إلى بقيّة شعوب المعمورة. كيف ترون مستقبل هذه السياسة؟
- القادة الأميركيون مقتنعون بأن تخلّيهم عن هذه السياسات سيضعف موقعهم دولياً وداخلياً، ويحملهم على تبنّي دبلوماسية أكثر تواضعاً لا يريدونها. لدى هؤلاء حالياً هدفان متناقضان. هناك، من جهة، التزامهم الذي لم يتزعزع بثقافتهم الخلاصيّة، وهي الأساس النظري للزعامة العالمية الأميركية. لكن، ومن جهة أخرى، تشهد الولايات المتحدة تصاعداً سريعاً وقويّاً لتيّار انعزالي وحمائي، استقطب قطاعاً عظيماً من الطبقات الوسطى التي خاب ظنّها بالعولمة، لأن خسائرها كانت أكبر من مكاسبها بالنسبة إليه. هي أضحت متردّدة إنْ لم تكن معارضة للتدخلات الخارجية، وهو ما اتّضح خلال الانسحاب من العراق، ورفض التدخُّل في سوريا، ومن ثمّ الخروج من أفغانستان. بايدن يَعتمد سياسة توازن بين دعم كبير لأوكرانيا، والإعلان المتكرّر عن رفض أيّ تورّط في النزاع. وقد كشفت الجلسات المتتالية لمحاولة انتخاب رئيس لمجلس النواب الأميركي، عن وجود تيّار جمهوري يؤيّد خفْض الدعم لأوكرانيا. هل سنرى، رغماً عن كل ذلك، إحياءً لسياسة التدخّل الخارجي في الأشهر القادمة؟ لِننتظر ونرَ.