منذ عشرات السنين، تلاحق الأكرادَ لعنةُ الجغرافيا. قد تكون الجِبال التي يَسكنونها مُغريةً للقتال الطويل الأمد. ولكن بالمعنى الحدودي للجغرافيا، ما زال الأمر الآن، كما كان قبل مئة عام، عند انهيار الإمبراطورية العثمانية، والذي أدّى إلى رسْم حدود كلّ دول الشرق الأوسط، باستثناء دولة الأكراد التي كان يُفترض أن تقوم في شرق الأناضول ومحافظة الموصل العراقية، بموجب «معاهدة سيفر» التي قسّمت تلك الإمبراطورية في عام 1920. منذ ذلك الزمن، صار الأكراد، وتحديداً في شمال العراق وجنوب شرق تركيا، يتعاملون مع دول المنطقة، صراعاً أو اتّفاقاً، بالقِطعة، إلّا أنهم أدركوا شبه استحالة إقامة دولة كردية، إلّا إذا تَغيّرت الخريطة بحجم التغيّر الذي حصل آنذاك، وهذا يتطلّب انتصار إمبراطوريات وانكسار أخرى.وعلى رغم أن جزءاً من أكراد العراق، وتحديداً جماعة مسعود بارزاني، يتعاملون مع الحُكم الذاتي في شمال البلاد، بصِفته مشروع دولة مستقبلية، إلّا أن مِثل هذه الدولة لا يمكن أن تقوم، ليس بسبب رفض العراق أو إيران لها، وإنّما بسبب معارضة تركيا التي تَعتبر إقامة الدولة الكردية، بمثابة نهايتها وتفكّكها هي. ولذلك، تَبرز تلك الحساسية العالية لدى الأتراك، والتي تجعل أنقرة ترفض أيّ تَفاوض من أيّ نوع مع الأكراد حتى لو على افتتاح مدرسة تُعلّم باللغة الكردية، وتُخيّرهم دائماً بين التخلّي كلّياً عن أحلام الانفصال وبين الحديد والنار. هذه الحساسية ليست موجودة في الحالة الإيرانية، على رغم وجود مناطق كردية في إيران، بل إن الأخيرة تتعامل مع أيّ استهداف أمني أو سياسي يتأتّى من كردستان العراق، بوصْفه اختراقاً يتقاطع عليه الأكراد مع جهات عديدة تستفيد منهم، من بينها إسرائيل وبعض دول الخليج. ولذا، يَسهل على طهران إسقاط هذا النوع من الاختراقات، الأمر الذي حصل أكثر من مرّة في السنوات الأخيرة.
تتمثّل محاولة الاختراق الراهنة في سماح حزب بارزاني للأحزاب الكردية الإيرانية المعارِضة بتهريب السلاح إلى إيران لاستخدامه ضدّ قوات الأمن الإيرانية، التي تتعامل مع المتظاهرين في مناطق كردية إيرانية، الأمر الذي تردّ عليه طهران بصورة مباشرة من خلال قصف مقارّ تلك الأحزاب، ما يدفع بجماعة بارزاني إلى محاولة استغلال القصف سياسياً، وجرّ العراق إلى موقف غير منسجم مع مصالحه. وتؤكّد مطالبة نواب أكراد في البرلمان العراقي بنصْب منظومات دفاع جوّي في كردستان العراق، أن المُراد هو ربْط المنطقة الكردية بمشروع تطويق إيران؛ إذ يحاكي هذا الطلب عملاً دؤوباً تقوم به السعودية بشكل غير معلَن، والإمارات والبحرين بشكل شبه معلَن، لنصْب منظومات دفاع جوّي على أراضيها لمواجهة طهران. ومن بين التناقضات العديدة التي ينطوي عليها موقف حزب بارزاني أيضاً، أن رفْع الصوت ضدّ إيران يأتي في الوقت الذي لا يحرّك فيه الحزب ساكناً إزاء التوغّلات والهجمات الجوّية التركية في شمال العراق، وهي أعمق بكثير من الردود الإيرانية التي لم تَصل بعد إلى مرحلة التحرّك البرّي، بل ويُواصل تجارته بالنفط مع تركيا التي تشكّل المورد المالي الأساسي لعائلة بارزاني، عبر شركات تابعة للأخيرة. كما يحرص على منْع تواجُد عناصر «حزب العمال الكردستاني» في المحافظات الواقعة تحت سيطرته، بينما يتذرّع بعدم قدرته على فعْل ذلك إزاء الأحزاب الكردية الإيرانية.
قصْف طهران سيستمرّ إلى أن يقتنع بارزاني بالتوقّف عن استغلال الأوضاع الداخلية لإيران


وعلى رغم أن «الحزب الديموقراطي» يتحكّم إلى حدّ كبير بسياسة إقليم كردستان نتيجة ارتباطاته الخارجية، إلّا أن «الاتحاد الوطني الكردستاني»، الذي تسيطر «البيشمركة» التابعة له على نصف الإقليم، أظْهر قدرته على التأثير في الأحداث في المفاصل المصيرية. ويدرك الاتحاد أن الفشل هو مصير محاولة التلاعب بالحدود، بل يتحدّث عن تورُّط إسرائيلي وخليجي في منْع إنهاء الحالة الكردية الإيرانية المسلّحة في إقليم كردستان، وبالتالي يرى أن أحداً لا يستطيع منْع إيران من القيام بذلك بنفسها، كما تفعل أنقرة في مناطق أخرى ولا يمنعها أحد (راجع: «الأخبار»، 22 تشرين الثاني 2022، «الكردستاني» يجيّش ضدّ إيران). ولذا، سيكون لـ«الوطني الكردستاني» دورٌ في إسقاط هذا الاختراق، مثلما كان له دور في إسقاط مغامرة بارزاني التي تمثّلت في الاستفتاء على الانفصال عام 2017 على يد إيران نفسها.
كذلك، انتهت إلى الفشل محاولة التأثير في موقف الحكومة العراقية، حيث أكثر ما يمكن أن يحصل عليه الحزب من شركائه، هو أن يلعب هؤلاء دور الوسطاء بينه وبين طهران التي تَعرف بارزاني جيداً، وشهدت علاقتها معه تذبذبات على مدى سنوات طويلة، تدهورت أحياناً إلى المستوى الذي هي عليه الآن، فيما تحسّنت أحايين أخرى إلى حدّ أن إيران كانت الوحيدة قبل سنوات قليلة التي لبّت نداءه حين اضطرّ للاستنجاد بالشهيد قاسم سليماني لدفْع الخطر المُحيق الذي مثّله وصول «داعش» إلى حدود كردستان العراق، حيث كان مصير الإيزيديين ينتظر الأكراد في ما لو نجح التنظيم في اختراق مناطقهم. وبالنتيجة، فإن إيران تعاملت دائماً، بلا أدنى تهاون، مع التهديدات التي لاحت من إقليم كردستان، سواء أكانت أميركية أم إسرائيلية أم كردية إيرانية.
في المقابل، دائماً ما كان بارزاني يختار ظروفاً يراها مُؤاتية كي يضرب ضربته، ليتّضح سريعاً أنها غير ذلك. وتتزامن محاولة الاختراق الكردية هذه المرّة، مع مساعي ترتيب العلاقة بين بغداد والإقليم، الأمر الذي يتطلّب التوصّل إلى حلّ لقضايا عالقة كثيرة، تبدأ بملفّ النفط، ولا تنتهي بالخلافات بشأن وضْع مدينة كركوك وبعض المناطق المحيطة بها، وفق المادة 140 من الدستور التي تشمل «المناطق التي تعرّضت للتغيير الديموغرافي ولسياسة التعريب على يد نظام صدام». تلك المساعي تأتي ضمن الصفقة التي أدّت إلى قبول الحزب بالمشاركة في حكومة محمد شياع السوداني، فيما تجري حالياً مفاوضات بين أربيل وبغداد لتذليل خلافاتهما، علماً أن الأولى دائماً ما تسعى إلى تحقيق نقاط على طريق الانفصال، وفي الوقت نفسه تُطالب بغداد التي لا تمارس أيّ سلطة أمنية على كردستان باتّخاذ موقف من القصف الإيراني، على رغم تموضع الإقليم على طرف نقيض من المركز من خلال تحالفه مع إسرائيل ودول خليجية. وفوق هذا، تُطالب برفع حصّة الإقليم من الميزانية الاتحادية من 12% إلى 17%، فيما تُواصل تهريب النفط من كردستان، ولا تُحوّل ما يتوجّب من عائداته إلى الحكومة المركزية.
على رغم كلّ ما تَقدّم، فالأبواب ليست مغلَقة بين إيران وبين حزب بارزاني. ويعود ذلك إلى الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها طهران في التعامل مع هذا الملفّ، والتي بفضلها كانت العلاقات تعود دائماً من حافّة هاوية العداء الذي لا رجعة عنه، إلى حلّ الخلافات بالتفاوض. إلّا أن القصف الإيراني سيستمرّ إلى أن يقتنع الحزب بالتوقّف عن استغلال الأوضاع الداخلية الحالية في إيران، خصوصاً أنه لن يستطيع إثارة الضجّة التي يريدها ولا إثارة الداخل أو الخارج ضدّ طهران، بسبب ضعف موقفه هو في المقام الأوّل.