لطالما فاخر المسؤولون السعوديون بقدرتهم على التحكّم في الانتخابات الأميركية من خلال السيطرة على مستويات إنتاج النفط في العالم، وبالتالي التأثير في أسعاره. وهي قدرة نسبية طبعاً، ومرتبطة بظروف معيّنة مِن مِثل الأوضاع التي يعيشها العالم راهناً، حيث تساهم أحداث مختلفة في الارتفاع الجنوني لأسعار النفط، في مقدّمتها الحرب في أوكرانيا التي أدّت إلى نقص كبير في الإمدادات إلى أوروبا، التي تُعتبر ذات أهمّية خاصة بالنظر إلى الدور الذي تلعبه القارّة في الاقتصاد العالمي. ويَعرف كلّ من في أميركا، التي ارتبطت حروبها الكبرى ومؤامراتها بالنفط على مدى عشرات السنين، الوقْع النفسي لأسعار هذه السلعة الحسّاسة على الرأي العام الأميركي، وهذا تؤكّده أيضاً الدراسات واستطلاعات الرأي التي ربطت بشكل وثيق أيضاً، على مدى تلك السنين، بين شعبيّة الرئيس المقيم في البيت الأبيض، وبالتالي حزبه، وبين هذه الأسعار، إلى درجة أن دراسة أجرتها مجلّة «بوليتيكال سايكولوجي» (علم النفس السياسي) عام 2016، عن الفترة بين منتصف سبعينيات القرن الماضي ومنتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، بيّنت أن كلّ ارتفاع بواقع عشرة سنتات في سعر النفط، أدى إلى خفض أكثر من نصف نقطة مئوية في شعبية الرئيس.أكثر ممّا تَقدّم، يجد الرؤساء الأميركيون أنفسهم عاجزين عن ممارسة تأثير كبير في أسعار النفط، إلّا من خلال العلاقة مع كبار المنتِجين، وتحديداً السعودية ودول الخليج، ما يجعلهم بلا حول ولا قوة في حال كانت علاقتهم سيّئة بحكّام المملكة، كما هي الحال اليوم بين ابن سلمان والرئيس جو بايدن. والنفط كان السبب الرئيس في التوتّرات المتكرّرة التي شابت العلاقات بين الرياض وواشنطن عبر السنين، وإنْ كانت لم تصل سابقاً إلى ما وصلت إليه اليوم. أيضاً، من المعلوم أن الحال الاقتصادية للولايات المتحدة هي غالباً الأكثر تأثيراً في قرار الناخب الأميركي عندما يذهب إلى صندوق الاقتراع، والنفط بدوره يمثّل محدّداً أساسياً للقرار المذكور، من بين مؤشّرات اقتصادية أخرى مِن مِثل التضخّم والبطالة. وأحد الأسباب في ذلك، هو أن سعر النفط هو الأكثر ظهوراً أمام ناظر أيّ أميركي يتنقل في الشوارع، حتى لو لم تكن لديه سيارة، فهو على كلّ اللوحات الإعلانية عند محطّات الوقود، بينما يحتاج الأمر إلى تمعّن أكبر لملاحظة الفارق في أسعار السلع الأخرى.
الرؤساء الأميركيون عجزوا عن ممارسة تأثير كبير على أسعار النفط، إلّا من خلال العلاقة مع كبار المنتجين


ولأن الارتفاع الكبير في الأسعار، المسجَّل راهناً، مستمرّ منذ أشهر طويلة وإنْ بتفاوت، مُنهِكاً الاقتصاد العالمي، ومُحدِثاً تضخماً كبيراً في كلّ أنحاء العالم، فبلا شكّ، سيكون ابن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير يوتين، قد نجحا في ممارسة تأثير كبير على نتيجة الانتخابات النصفية، إذا أظهرت انتهاء سيطرة الديموقراطيين على مجلسَي الكونغرس أو أحدهما على الأقلّ. ومع ذلك، لم يكن وليّ العهد السعودي ليستطيع معاندة الإدارة الأميركية لولا أنه يحظى برعاية بنيامين نتنياهو وحلفائه في اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذين استولوا على السلطة أخيراً، بالإضافة إلى الجمهوريين في أميركا. ولعلّ الصورة التي نشرها خالد الجبري، نجل المعارض السعودي، سعد الجبري، وجمعت قبل فترة قصيرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومحافظ «صندوق الاستثمارات السعودي»، ياسر الرميّان، رجل ابن سلمان، تفضح التدخّل السعودي المطلوب جمهورياً في الانتخابات الأميركية، وربّما بالمال، باعتبار أن الصندوق المُشار إليه هو الذي استثمر مليارَي دولار في صندوق استثمار حديث النشأة يديره صهر ترامب، جارد كوشنير، على خلاف رأي الهيئة الاستشارية لدى الأوّل.
ولم تكتفِ السعودية بخفض إنتاج النفط، وإنّما كشَف إعلامها أن بايدن طلب منها تأجيل قرار الخفض لمدّة شهر لتمرير الانتخابات النصفية، وهو ما تلقّفه الجمهوريون لاتّهام الرئيس باستدعاء تدخّل أجنبي في الانتخابات. وحتى اللحظة الأخيرة، سعى الرجل إلى إعدام أيّ فرصة للديموقراطيين للسيطرة على المجلسَين، إذ تُوّجت سلسلة الارتفعات التي سُجّلت في أسعار النفط منذ قرار «أوبك بلس» خفْض الإنتاج بواقع مليونَي برميل يومياً، في مطلع تشرين الأول الماضي، بزيادة 5%، يوم الجمعة الماضي وحده، وصولاً إلى عتبة 93 دولاراً لخام غرب تكساس الوسيط، وما يَقلّ قليلاً عن 99 دولاراً لخام برنت. وحتى على المستوى الداخلي الأميركي، تبدو شبكة المصالح النفطية المتحالفة مع الجمهوريين بوجه عام، ذات تأثير ما على ارتفاع الأسعار، وإنْ لم يكن بالمستوى ذاته الذي تملكه الدول المنتِجة. وهذا سبب التوتّر الذي ظهر أخيراً بين بايدن وبين كبريات شركات النفط، إلى الحدّ الذي دفعه إلى تهديدها برفع الضرائب عليها إذا لم ترفع مستويات إنتاجها لتعويض النقص، على رغم قدرتها المحدودة على التعويض. فالولايات المتحدة تتّجه، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية، إلى تحقيق معدّل إنتاج يبلغ 11.8 مليون برميل يومياً في عام 2022، وهو أقلّ بنصف مليون برميل عن المعدّل اليومي الذي سُجّل عام 2019.
قد يكون بايدن، على رغم الانطباع المأخوذ عنه بأن حركته بطيئة، واحداً من أكثر الرؤساء الأميركيين الذين عملوا داخلياً وخارجياً لكبح أسعار النفط؛ إذ أفرج عن كمّيات كبيرة من المخزون الاستراتيجي، بعدما فشلت جهوده في إقناع ابن سلمان بزيادة الإنتاج، على رغم تنازله له من خلال زيارته في جدة. لكنّ العجز الذي أصابه، كما أصاب غيره من الرؤساء من قَبل في مواجهة هذا السلاح الماضي، سيضع ابتداءً من اليوم مصيره الشخصي على المحكّ، حيث ستزداد، في حال تَحقّقت الخسارة المتوقّعة للديموقراطيين، مهمّاته صعوبة في تشكيل السياستَين الداخلية والخارجية في المرحلة المقبلة، ما يفتح الطريق أمام إزاحته كمرشّح طبيعي للديموقراطيين في انتخابات الرئاسة عام 2024.