وتقود ميلوني حزباً سياسيّاً طالما اعتُبر امتداداً عصريّاً للحركة الاجتماعية الفاشستية الجديدة التي وَرثت تركة الزعيم الإيطالي الراحل، بينيتو موسوليني، بعد الحرب العالمية الثانية. ويدافع «الإخوة الإيطاليون» عمّا يسمّونه «القيم الاجتماعية التقليدية للعائلة الإيطالية» في مواجهة «الليبرالية المتحرّرة»، وينادون بـ«الحفاظ على الهوية المسيحية» لأوروبا، ويدعون إلى إغلاق الطرق أمام المهاجرين غير الشرعيين، والتصدي لـ«البيروقراطيين العدميّين» في بروكسل، وحماية العمّال الإيطاليين من تغوّل رأس المال المعولم. وقد أثار صعود شعبيّة الحركة في الأشهر القليلة الماضية قلقاً في المركز البيروقراطي الأوروبي من إمكان تضعضع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ويدعمه الاتحاد الأوروبي ضدّ روسيا، ولا سيما أن علاقات طيّبة تربطها بيمينيّين متطرّفين آخرين في السلطة أو المعارضة في عدّة دول أوروبية ممّن يشكّلون كتلة مشاغبة في وجه توجهات الاتحاد السياسية وخياراته الاقتصادية. لكن ميلوني لطّفت بوضوح من حدّة مواقفها في تصريحاتها الأخيرة، مقتربةً من الوسط؛ فوعدت بالحفاظ على تحالفات إيطاليا «الأطلسية»، ودعْم أوكرانيا، واحترام العملية الديموقراطية الليبرالية، وتحقيق «الاستقرار المالي»، فيما لم تَعُد مسألة الهجرة في أعلى قائمة أولويات الإيطاليين - بعدما نجحت روما في كبح جماحها من خلال تزويد الميليشيات الليبية بالموارد اللازمة لوقْف تدفّق قوارب المهاجرين المحتملين من دول الجنوب.
وتتسلّم ميلوني جمهورية تُعدّ في عرف الاقتصاديين بمثابة «رجل أوروبا المريض». فإلى التضخم الحادّ، والتصاعد الفلكي في تكاليف المعيشة، وتراجع الصادرات، وأزمة الطاقة، فإن إيطاليا بالفعل هي الدولة الأكثر مديونيّة في منطقة اليورو - حوالى 3 تريليونات يورو، أي ما يعادل 150% من الناتج المحلي الإجمالي -، وهي تنتظر على أحرّ من الجمر الحصول على الجزء الأكبر المتبقّي من حزمة دعم الاتحاد الأوروبي الموعودة بقيمة 200 مليار يورو أُقرّت للمساعدة في إعادة إنعاش اقتصادها المنهك بعد جائحة «كوفيد-19»، وستظلّ بحاجة ماسّة أيضاً إلى دعم «المركزي الأوروبي» في الحفاظ على تكاليف الاقتراض الحكومي من التصاعد وإبعاد شبح الإفلاس. وتأتي إيطاليا ثانيةً فقط بعد اليونان في مستوى ارتفاع تكلفة الاقتراض السيادي ضمن منطقة اليورو.
لكن مصاعب ميلوني في السلطة قد تتأتّى أساساً من داخل ائتلافها الحاكم، إلى درجة أن بعض المراقبين يقولون إن حكومتها لن تبرأ من مرض قصر عمر الحكومات الذي تشتهر به إيطاليا. وعرفت روما 70 رئيس وزراء منذ عام 1946. وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية خلافات حادّة بين أعضاء الائتلاف حول تقاسم الحقائب الوزارية تسرّب بعضها إلى الصحافة. ونشرت صورة التقطها أحد الصحافيين لقصاصة ورق خطّها بيرلوسكوني، الشريك الثالث في الائتلاف، يشتكي فيها لكوادره الحزبية من عناد ميلوني، ويصفها بأنها «شخص متعجرف ومتسلّط وسيئ لا يمكن التوافق معه». لكن الهاجس الأكبر بعد تجاوُز قطوع التشكيل يظلّ مواقف الشركاء من موسكو. وتريد ميلوني أن تطمئن بروكسل وواشنطن إلى انتظامها الصريح في خط التّحالف ضدّ روسيا، وهي أعلنت بصرامة أن «أيّ شخص لا يتّفق مع توجّهها المؤيّد لأوروبا وحلف شمال الأطلسي لا يمكن أن يكون جزءاً من الحكومة، حتى لو كان ذلك يعني عدم تشكيل الحكومة». لكن شركاءها في الحكم قد لا يعزفون المقطوعة ذاتها بعد تسلُّمهم السلطة. ومن المعروف أن سالفيني – الشريك الثاني في الائتلاف الحاكم - كان قبل الحرب في أوكرانيا من المعجبين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد جأر سالفيني بالشكوى علناً خلال حملته الانتخابية من الخسائر التي تسبّبت بها العقوبات ضدّ روسيا على الاقتصاد الإيطالي. ونُقلت عنه تصريحات حادّة حول فشل تدابير عقابيّة فرضتها أوروبا ضدّ موسكو، وقال لأنصاره خلال الحملة الانتخابية، إن «مَن يدفع الثمن - لفشل العقوبات - هي العائلات والشركات الإيطالية». كما لم تساعد تسجيلات صوتية تسرّبت لبيرلوسكوني - الشريك الثالث - في دعم موقف الرئيسة في هذا الاتجاه. وترصد التسجيلات حديثاً للزعيم الثمانيني مع نواب حزبه في البرلمان عن صداقته المتجدّدة مع الرئيس الروسي، ودفاعه عن الحملة العسكرية في أوكرانيا، ملقياً باللوم على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بإثارة الصراع الحالي. واحتفظ بيرلوسكوني بعلاقات وثيقة مع بوتين طوال فترة تولّيه رئاسة الوزراء في إيطاليا سابقاً، على رغم أنه قدّم نفسه في العلن، خلال الحملة الانتخابية، كضمانة لوجود «حكومة ليبرالية مؤيّدة لأوروبا والناتو».
تتسلّم ميلوني جمهورية تُعدّ في عرف الاقتصاديين بمثابة «رجل أوروبا المريض»
وقد حاول خبراء تفسير التصريحات المنسوبة إلى بيرلوسكوني على أساس شعوره بالإحباط المتزايد من قوّة شخصيّة ميلوني - التي كانت قبل 14 عاماً مجرّد وزيرة للشباب في إحدى حكوماته السابقة -، كما محدودية حصّته من التشكيل الحكومي، أكثر من كونها تموضعاً سياسياً حاسماً. ومع ذلك، فقد انقضّ المعارضون الليبراليون واليساريون على رئيسة الوزراء، مشكّكين بقدرتها على الوفاء بتعهّداتها أمام الأميركيين تجاه الحفاظ على دعم إيطاليا لأوكرانيا «مع وجود حلفاء بوتين الكثر داخل ائتلافها الحاكم»، بل دعا بعضهم إلى منْع تاجاني من تولّي منصبه وزيراً للخارجية تحديداً، نظراً إلى آراء زعيمه التي اعتبروها منحازة لروسيا، ويمكن أن تشوّش على الموقف الرسمي الإيطالي.
واللافت في اللعبة الإيطالية أن الطبقة الحاكمة، مهما غيّرت سرديّتها الفولكلورية بين ألوان الفاشستية والليبرالية واليسار، فإن ولاءها النهائي محسوم للإمبراطورية الأميركية التي بقواعدها العسكرية المنتشرة عبر الأراضي الإيطالية وأيديها الاستخبارية الممتدّة عميقاً في قلْب نخبة البلاد السياسية، قرّرت دائماً مَن يَحكم في روما وبماذا يَحكم. ولذا، فإن ميلوني، إن نجحت في كبح جماح شركائها، ستجد في المحصّلة أنها مجرّد ماريو دراغي آخر، وهو ليس ما صوّت من أجله الإيطاليون؛ وإذا فشلت، فتتحوّل سريعاً إلى رئيسة وزراء سابقة. هكذا هي السياسة في هذا البلد.