أحد الشعارات الأساسية التي يطرحها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في حملته الانتخابية هو «استقلال» القرار الاقتصادي والسياسي لبلاده. والمساحة التي أخذها من تحالفات تركيا السابقة، والتي ظلّت ثابتة على مدى عشرات السنين، أتاحت له إجراء مساومات كثيرة خارج موقعها ذاك. لكن حتى إن كان محقّاً في ما قام به، وتلك مسألة نسبية، فإنه في الآونة الأخيرة عاد واضطرّ إلى دفع أثمان، ربّما أكبر ممّا كان يُدفع في السابق، متراجعاً عن الشعارات المعادية لإسرائيل، ومقيماً علاقة «دافئة» مع العدو لا تفتأ تسلك مساراً تصاعدياً. كذلك، عجز إردوغان عن تحقيق وعده بـ«فتْح» الخليج، وتسخير ثرواته لصالحه، من خلال قيادة الحركة «الإخوانية»، فإذا به اليوم يقرّ بـ«شرعية» النُظم المعادية فيه مقابل فتات من الاستثمارات، على رغم أنه لو رجع الأمر إلى وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد، فإنهما يفضّلان، حتى مع تراجعاته، الحُكم العلماني في تركيا أو نسخة أخفّ من الحُكم الإسلامي بقيادة شخص مثل فتح الله غولن، الذي حظي بدعم خليجي في الانقلاب الذي دُبّر ضدّ الرئيس عام 2016.على أن الثمن الأكبر الذي دفعه إردوغان لاستقلالية القرار هو شبه الحصار السياسي والاقتصادي الغربي عليه، والذي يساهم في انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية العائدة إلى التدهور السريع في الأيام الماضية، وبالتالي في ارتفاع التضخّم، الذي قد يضرّ بفرصه في الفوز، لا سيما وأن إردوغان يغامر في الإصرار على اتّباع سياسة خفض الفوائد لتحفيز النمو. وحتى إن كانت هذه السياسة نظرياً صحيحة، خصوصاً أن أسعار الفائدة في تركيا عالية بالفعل عند 14 في المئة، إلّا أن تجاهل السياستَين المالية والنقدية تماماً خلال رحلة النموّ في الاقتصادات الناشئة، له عوارض جانبية قد لا يتحمّلها الاقتصاد، مثل التضخّم المفرط وهجرة رؤوس الأموال الأجنبية التي تحتاجها بشدّة الدول ذات الموارد الطبيعية الضعيفة مثل حال تركيا. والمعاندة السياسية والاقتصادية التي يقابل إردوغان بها الغرب، تتطلّب تموضعاً مختلفاً لا يبدو هو مستعدّاً له، ولا قادراً على أخذ تركيا إليه. ولا يبقى أمامه في هذه الحالة سوى عقْد الصفقات الجانبية، لكن ذلك يتطلّب منه أيضاً تنازلات لأن الآخرين يريدون منه مقابلاً لكلّ شيء.
الرهانات التي يقيمها إردوغان لضمان الفوز في الانتخابات قد تكون مجزية وقد ترتدّ سلباً عليه


جاء إردوغان بشعار «صفر مشاكل» مع دول الجوار، وتَبيّن له أن تركيا لا تستطيع العيش إلّا على المشاكل مع الجوار، والتي تتسبّب بها موروثات تاريخية في تلك العلاقة. فهو يجد صعوبة في التخلّي عن النزعة التوسّعية القديمة في تركيا، في حين أن ذلك الجوار لا ينسى ظلم الأتراك ولا يريد العودة إليه، من الدول العربية المحيطة، إلى الأكراد في داخل تركيا وجوارها أو حيث صار لهم جماعات ضغط في الدول الأوروبية التي يؤثّرون في سياساتها عبر الانتخابات، إلى الأرمن، إلى العلاقة الدائمة التوتّر بالخصم التاريخي اليونان، ومعها قبرص، التي تحتلّ تركيا جزءاً منها. وحدها العلاقة مع إيران تقوم على استقرار الجغرافيا، ولكنّها أيضاً تبقى مفتوحة على التنافس السياسي والاقتصادي، كما على صراع الأيديولوجيات، ولو من دون حدّة. الرهانات التي يقيمها إردوغان لضمان الفوز في الانتخابات الرئاسية، كلّها مقامرات يمكن أن تكون مجزية، كما يمكن في المقابل أن ترتدّ سلباً عليه، من أسعار الفائدة التي يراهن فيها على الوقت الذي يبدو في غير مصلحته، إلى التقرّب من إسرائيل ومن حكّام الخليج، ما قد يكون له انعكاس سلبي على شعبيّته. لذلك، دائماً ما كانت السياسة الخارجية التركية، إلى جانب الحال الاقتصادية للبلد، أكثر عاملَين تأثيراً في مَن يكون في الحُكم. ولم يكن الصعود الإسلامي في المقام الأوّل إلّا ردّاً على الوهن الاقتصادي لتركيا في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين، والصراعات اللامتناهية بين القوى العلمانية.
ستكون الحملة الانتخابية هذه واحدة من الأقسى في تاريخ تركيا، لأنها ستمثّل استفتاءً غير محسوم النتائج على هويّة البلاد: هل تبقى إسلاميّة التَوجّه، أم تعود علمانية؟ هل تُكرّس نجاح ظاهرة إردوغان، أم تنهيها؟ ولذلك، انخرط الرئيس بنفسه مبكراً جداً فيها، لأنه وحده القادر على التحايل على المعارضة المتربّصة به، والتي يقودها العلمانيون، وتضمّ بعض الإسلاميين من المنشقّين عنه، مثل زعيم حزب «المستقبل» أحمد داوود أوغلو، وزعيم حزب «دواء» علي باباجان. لكن نسب التأييد التي تُظهرها استطلاعات الرأي، تؤكّد ضيق هامش تَقدّم الرئيس، حيث على سبيل المثال بَيّن أحدها أن حزب «العدالة والتنمية» بقيادة إردوغان، يحظى بتأييد 31 في المئة من الأتراك، مقابل 27.3 في المئة لحزب «الشعب» الجمهوري بقيادة كمال كليجدار أوغلو، وهو أكبر أحزاب المعارضة ويسيطر على بلديتَي إسطنبول وأنقره، ما يعني أن الأمر مرهون بالتحالفات التي ينجح كلّ طرف في نسجها، وهنا يمكن أن يكون لمهارة إردوغان وقدرته على نصب الأفخاخ للمعارضة، دور في إمالة كفة الميزان.
ولذلك، اعتبر زعيم حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي، صلاح الدين دميرطاش، المسجون بتهمة «الدعاية الإرهابية»، وأحد أشدّ المعارضين للرئيس، أن المعسكر المعارض لإردوغان غير متماسك، على رغم أنه اعتبر أن 70 في المئة من الشعب التركي يريد التغيير. لكن حزب «الشعوب» يبقى خارج الحساب في التحالفات المناهضة للرئيس، لأن القوى السياسية التركية كلّها، وعلى تنوّعها، لديها حساسية خاصة تجاه الأحزاب الكردية، خصوصاً متى اشتمّت رائحة ميول انفصالية لديها. ويبقى التحدّي الأكبر للرئيس، التحالف الذي أقامه زعماء ستّة أحزاب معارضة، بينها 3 أحزاب إسلامية، هم كليجدار أوغلو وداوود أوغلو وباباجان، وزعيمة «الحزب الجيد» ميرال أكشنر، ورئيس حزب «السعادة» تمل قره موللا أوغلو، ورئيس «الحزب الديموقراطي» غولتكين أويصال، إلّا أن هذه الأحزاب لم تتّفق بعد على مرشّحها لمواجهته، على رغم تَقدُّم حظوظ كليجدار أوغلو، إلّا أن المؤكّد أنها ستقوم في حال فوزها بالعودة عن النظام الرئاسي الذي استحدثه إردوغان، إلى النظام البرلماني.