بعد أسبوع من المفاوضات والجدل حول قانون العقوبات التجارية ضدّ روسيا (ماغنيتسكي)، عُقدت، ليل الأربعاء - الخميس، صفقةٌ ما في أروقة الكونغرس، وافق على إثرها السيناتور راند باول على تمرير القانون. وبحسب باول، فإنّ الصيغة الأصلية عامّة جدّاً، ولم توضح ما تعنيه انتهاكات حقوق الإنسان بالضبط، وهو ما تمّ إصلاحه بتحويل الصياغة من «انتهاكات فادحة» إلى «انتهاكات جادّة». وكان قانون العقوبات الجديد محطّ جدل منذ تمريره في مجلس النواب، حيث صوّت النائب الجمهوري، توماس ماسي، إلى جانب سبعة نوّاب جمهوريّين، حينها، ضدّه، مُعلّلاً ذلك في تغريدة على «تويتر»، بأنّ المشروع يسمح بإعطاء الرئيس الأميركي صلاحيات استثنائية لاستخدام «ماغنيتسكي» ومعاقبة أيّ شخص في أيّ مكان في العالم، الأمر الذي لا يبدو أنه تَغيّر بعد التعديل. إذ إنّ كلّ ما سيحتاجه الرئيس، لفرض عقوبات مِن مِثل تجميد الممتلكات ومنع السفر، هو «معلومات موثوقة»، ما يلغي ضرورة ترشيح الكونغرس لأسماء الأشخاص الذين تجب معاقبتهم، وبالتالي يعفي البيت الأبيض من مهمّة مفاوضة الكونغرس ومساومته. بتعبير آخر، لا تزال العقوبات مبنيّة على المتطلّبات ذاتها، أي «المعلومات الموثوقة»، ولكن يكفي اليوم أن يرى شخص واحد، هو الرئيس، أنّ المعلومات موثوقة بالفعل.
ما هو «ماغنيتسكي»؟
تحوَّل «قانون ماغنيتسكي»، الذي صدرت نسخته الأولى عام 2012، إلى أداة حرب ناعمة رئيسة بيد الأميركيين، بعدما بُني على سردية تحوم حولها الكثير من الشكوك. وسُمّي القانون بهذا الاسم نسبةً إلى سيرغي ماغنيتسكي، وهو - وفق السردية الشائعة - محامٍ روسي، اكتشف قضية فساد ضدّ مسؤولين روس عندما وظّفه ويليام بيل براودر عام 2007، وأصرّ على الادعاء ضدّهم، رافضاً الهرب من بلاده، ليدفع حياته ثمناً لذلك. إلّا أن عدّة محاكم أوروبية وبريطانية أثبتت بطلان هذا الادّعاء، وفق الآتي:
أوّلاً: ماغنيتسكي محاسب وليس محامياً.
ثانياً: ويليام بيل براودر، زبون لدى الشركة التي يعمل فيها ماغنيتسكي منذ سنوات، ولم يوظِّف الأوّل الثاني على الإطلاق.
ثالثاً: ماغنيتسكي متّهم في قضية احتيال على مصلحة الضرائب الروسية لصالح شركات أجنبية، تعود إلى عام 2004، وتتعلّق بشركة «جيميسون فايرستون» التي يعمل فيها، وصندوق «إيرميتاج» الاستثماري العائد إلى بيل براودر.
رابعاً: حاول ماغنيتسكي الهرب إلى أوكرانيا فور طلبه للشهادة.
أمّا قضية مقتله في السجن، فهي تُراوح بين ادّعاء براودر أنه قُتل على يد حرس مكافحة الشغب داخل زنزانته، وبين تأكيد الجهات الأوروبية الداعمة للقانون ووالدة سيرغي أنه توفّي نتيجة الإهمال الطبي، وبين تقرير الحكومة الروسية الذي تحدّث أيضاً عن الإهمال الطبي، وبين ادّعائها اللاحق أن تحقيقات تُظهر تورُّط براودر في قتل ماغنيتسكي، كون الأخير الشاهد الوحيد لدى الحكومة الروسية على سرقة براودر، وتجاوزه القوانين الروسية، وتهرّبه الضريبي سعياً لتحقيق الربح. وبالتالي، فليست روسيا وحدها من تُكذّب الادّعاءات المتقدّمة، بل إن حجّة «المعلومات الموثوقة» أُسقطت في محاكم كلّ من بريطانيا والسويد وسويسرا و«المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان»، كما أن براودر تهرّب من الشهادة عدّة مرّات في أميركا ضدّ شركة «بريفزون»، التي قدّم بنفسه ضدّها «الأدلة» إلى الحكومة الأميركية، ليُعتمَد عليها في محاكمة الشركة بدعوى أنها استفادت من قضية الفساد التي يُفترض أن ماغنيتسكي كشفها وقُتل بسببها.
يبدو قانون ماغنيتسكي، بنسخته الجديدة، مُوجّهاً للاستخدام بشكل أكثر مرونة من قِبَل الإدارة الأميركية


ولعلّ من أهمّ الوثائق التي تُثبت بطلان الادّعاءات الغربية حول قضية ماغنيتسكي، تقرير المقرّر الخاص لحقوق الإنسان لدى «مجلس أوروبا»، أندريه غروس، والتعديلات التي أُلحقت به. فهو يُظهر أن ماغنيتسكي محاسب، وأن براودر زبونه، وأن الأوّل مات ولم يُقتل، أي أنه ليس ثمّة قتَلة مثْبتون ليتمّ فرض عقوبات عينيّة عليهم، وفق ما يدعو إليه القانون. كذلك، يعترف التقرير بأن براودر وشركاءه قاموا بالاحتيال على القانون الروسي لشراء أسهم «غازبروم» الممنوع على الأجانب شراؤها، عبر شركات وهمية، وبأنهم قاموا بتهريب الأرباح والتهرّب الضريبي. ومع هذا، يسترسل غروس في الدفاع عن براودر، ويصوّره كفارس شجاع محارب للفساد، وابتزازه لشركائه «عملاً نبيلاً». إلّا أنه، إلى جانب ما تَقدّم، أضاف «مجلس أوروبا» نفسه 23 تعديلاً على التقرير، قبل تمرير القانون مطلع عام 2014، أكد فيها أنه لا يوجد أيّ دليل يثبت أن ماغنيتسكي قام بأيّ فعل لمحاربة الفساد سوى ادّعاءات براودر، كما لا أدلّة أيضاً على مقتل ماغنيتسكي بشكل متعمّد، أو على تورّط وزارة الداخلية الروسية في مقتله.
ولم يكن المجلس الطرف الوحيد الذي شكّك في معطيات تقرير غروس (المُحرِّك الرئيس لتبنّي النسخة الأوروبية من القانون)، بل إنّ الأخير تجنّب المثول أمام محكمة أميركية للشهادة حول تقريره الصادر عام 2013، ولذا اعتبر قاضي نيويورك الفيدرالي، ويليام باولي، عام 2017، أن التقرير غير صالح للاستفادة منه، علماً أن غروس برّر عدم مثوله في نيويورك بأنه لا يستطيع تحمُّل تكلفة رحلة لمدّة ثلاثة أيام، من دون إعطائه تعويضاً عن تكاليف السفر والتحضير القانوني، ولكنه أصرّ على أن لا تُفهم هذه الأعذار على أنه غير مستعدّ للدفاع بكلّ قوّة عن ما توصّل إليه. ومع ذلك، رفض غروس مجدّداً المثول أمام هيئة مساءلة في «مجلس أوروبا» بخصوص قرار المحكمة الأميركية، وعليه تمّ إبعاده من المجلس بشكل كلي.
وعلى رغم كلّ تلك الحقائق والمعطيات، لا يزال التعتيم طاغياً على قضية ماغنيتسكي، وهو ما يمتدّ إلى الصحافة العربية أيضاً، حيث تكاد لا تعثر، منذ صدور القانون الأول عام 2012، على أيّ مواد تحاول التدقيق في الرواية الأميركية. أمّا عالمياً، فقد تمّ توجيه اتهامات وشكاوى ضدّ صحيفة «دير شبيغل» لتجرّؤها على طرح بعض الأسئلة والشكوك حول الرواية الغربية المُعمَّمة، فيما وثائقي «ماغنيتسكي القانون/ التمثيلية خلف الكواليس» لم يواجَه بحملة تخوين لمخرجه أندريه نيكراسوف - الذي بنى سيرته المهنية على انتقاد السلطات الروسية - فحسب، بل مُنع من العرض في كلّ المهرجانات الأوروبية، وعندما قرّرت قناة أوروبية (ألمانية فرنسية) بثّه، سارع «مجلس أوروبا» إلى منع البثّ، لأن الفيلم أظهر أعضاء المجلس بمظهر الجهَلة والمتواطئين. وفي أميركا، كان العرض الوحيد الذي تمكّن المخرج من تنسيقه محدَّد الدعوات.

النسخة الجديدة
يبدو قانون ماغنيتسكي، بنسخته الجديدة، مُوجّهاً للاستخدام بشكل أكثر مرونة من قِبَل الإدارة الأميركية، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام الاستهداف السياسي والافتراء والابتزاز. فأن يَمرّ القانون عبر مكتب الرئيس وحده، من دون أيّ حسيب أو رقيب أو حتى إمكانية ضئيلة لتضارب المصالح بين الحزبين بما يتيح القليل من التمحيص أو الموضوعية حول مَن يجب أن تقع عليه العقوبات، يعني أن «ماغنيتسكي» قد أصبح قانون عقوبات سياسية بشكل مكتمل لا لبس فيه.