لم يكتفِ بايدن بتبنّي خطاب ترامب بشأن الخطر الصيني بل وصف نظيره الروسي بالقاتل
لم تفضِ العولمة إلى ترسيخ الهيمنة الغربية، كما كان يَفترض منظّروها، ونجح آخرون، وفي مقدّمتهم الصين، في توظيفها لصالحهم، وأضحوا منافسين من الدرجة الأولى على الأسواق والريادة التكنولوجية. ومع اتجاه الغرب المتزايد إلى استخدام القوة العسكرية للحفاظ على سيطرته، وسعيه لاحتواء وتطويق المنافسين الجدد، دُفع هؤلاء دفعاً إلى اعتماد خيار المواجهة، وكان كرهاً لهم، وإلى التحالف مع بعضهم البعض. احتدام هذه المواجهة حدا بالنخب الغربية الحاكمة، من أمثال جو بايدن وإدارته، أو إيمانويل ماكرون وفريقه، التي تعاني هبوطاً حادّاً في معدّلات شعبيتها نتيجة لفشلها في تحقيق الحدّ الأدنى من وعودها الانتخابية، خصوصاً تلك المتعلّقة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدانها، إلى البحث عن شرعية تعويضية لا يوفّرها سوى اختراع عدو خارجي و/أو داخلي. البحث عن شرعية تعويضية، بحسب الأيديولوجية الليبرالية المغفّلة، هو خاصية تنفرد بها الأنظمة الشمولية الفاقدة للشرعية الديموقراطية، على عكس الرأسماليات البرلمانية التي تتمتّع بها.
بطبيعة الحال، لا تصمد مثل هذه السرديات أمام وقائع من نوع عزوف قطاعات عريضة، وآخذة في الاتّساع مع الزمن، عن المشاركة في العمليات الانتخابية في الديموقراطيات العتيدة، أو السقوط المريع لمعدّلات شعبية رؤسائها المنتخبين، بعد فترة وجيزة من وصولهم إلى السلطة. هؤلاء المقاولون السياسيون، الذين تجمعهم صلات عضوية بعالم المال والأعمال، لا همّ لهم سوى البقاء في مواقعهم وتأمين شروط إعادة انتخابهم. هم يحتاجون لذلك إلى شرعية تعويضية قد يوفّرها ادّعاؤهم التصدّي لعدو داخلي أو خارجي. قبل الأزمة الأوكرانية، اعتقد ماكرون أنه وجد ضالّته يوم أعلن الحرب على "الانفصالية الإسلامية" في الأحياء الفقيرة في الضواحي الفرنسية، لأن مجموعات سلفية مجهرية تنشط في بعضها، مثيراً سخرية عدد كبير من الخبراء الجدّيين في قضايا الهجرة والإسلام في فرنسا. أمّا بايدن، فهو لم يكتفِ بتبنّي خطاب دونالد ترامب التهويلي بشأن الخطر الصيني، بل وصف نظيره الروسي، في خرق واضح للأعراف الديبلوماسية، بالقاتل.
النُخب الغربية الحاكمة المتهاوية الشعبية، تحتاج إلى شرعية تعويضية، وهي مقتنعة بأن ظهورها بمظهر المدافع عن ثغور الحضارة البيضاء، وعن الذين "يشبهوننا"، سيُكسبها إياها. وهي مدركة أن ما سيساعد على توحيد جبهتها الداخلية وتعبئة رأيها العام، ليس التكرار الممجوج لشعارات خطاب العولمة فاقد الصلاحية والصدقية، بل مجاراة، واستعارة مفردات ومقولات تيّارات الهوية المتنامية في الولايات المتحدة وأوروبا. ومع استعار الأزمات الدولية، والحرب الأوكرانية أوّل الغيث، سيرتدّ الغرب أكثر فأكثر إلى سياسة تتأسّس على لون البشرة والشعر والعيون، لا على القيم "الكونية". لم تَعُد النخب الديموقراطية ترى ضيراً في وجود آلاف من قطعان النازيين الجدد ضمن كتيبة آزوف، في طليعة القوات الأوكرانية على خطّ النار في مقابل القوات الروسية.