قضى فلاديمير بوتين سنوات وهو يحضّر لهذه اللحظة. منذ عام 2014، تمّ تحوير كلّ السياسات الروسيّة، في الدولة والجيش والاقتصاد الكلّي، بغية تحصين موسكو من عقوباتٍ تشبه تلك التي فُرضت عليها اثر أزمة اوكرانيا والقرم، وبناء مناعة في الاقتصاد الروسي تجاه عقوباتٍ مستقبلية محتملة، قد تكون أكثر شدّة وشمولاً. بدأت روسيا بإنشاء وسائط ماليّة قد تكون بديلة لنظام «سويفت» وغيره في حال تمّ عزل مصارفها عن النظام المالي الغربي، شجّع على التبادل مع دولٍ أخرى بعملاتٍ غير الدّولار، قلّل من اعتماد الشركات والمصارف الروسية على الاعتمادات الخارجية والقروض الأجنبية بالدولار؛ وقلّص الى الحدّ الأدنى ملكيّة روسيا لسندات الخزينة الأميركية. افتتح الرئيس سوقاً جديدةً للغاز الروسي في الشّرق، مع الصّين، التي يمكن أن تستهلك قدراً كبيراً من انتاج الغاز الرّوسي، سواءً عبر الأنابيب أو بشكله المسال. قبل ذلك كلّه، فرض بوتين على الميزانيّة حالة انضباطٍ ماليّ شديدة وتقشّف، ورفض التوسّع في الانفاق العام حتّى حين تكون أسعار الطاقة مرتفعة والميزانية في فائض، أو حتّى في حالات الأزمة والوباء. بهذه الوسائل، راكم بوتين «صندوق حربٍ» فيه أكثر من 600 مليار دولار وميزانية لا تعاني من عجزٍ، وقروض بالحدّ الأدنى، ولكن ذلك جاء بثمنٍ مرتفع: كبح النّموّ والاستثمار في الاقتصاد الرّوسي، وانخفاض معيشة واستهلاك الرّوس وقيمة مداخيلهم، وبخاصّة الطبقات الوسطى التي تذمّرت طوال السنوات الماضية من ضيق العيش واقتصاد التقشّف. ولكنّ الرئيس في الكرملين لم يكترث، ودفع طوعاً الكلفة ولم يتردّد في ارساء سياساتٍ تطال فئاتٍ كانت من أهمّ الداعمين له، من أهل المدن الكبرى وصولاً الى الاثرياء الكبار، الذين لهم في الغرب مصالح وبيوت ويخوت وأبناء. هذا كلّه لم يهمّ لأن بوتين كما تبيّن البارحة كان، ببساطةٍ، يستعدّ للحرب.
الجيش الرّوسي الجديد
كان للجانب العسكري حظٌّ وافر من هذا الاستعداد. الجيش الرّوسي الذي نراه اليوم لا يشبه الجيش الذي قاتل في جورجيا عام 2008ـ ولا علاقة له تقريباً بالجيش السوفياتي الذي سبقه. لم يكن هذا الجهد «كمّيّاً»، بل تقلّص في السنوات عدد جنود الجيش، ولم تتوسّع الميزانية العسكريّة، بل كان التركيز على التحديث والنوعية والتكتيكات، وتطوير مستوى الجنود والتدريب والاحترافية. حتى في حرب الدونباس الأولى عام 2014، لم يكن الجيش الروسي يمتلك بعد مجسّات حديثة كالّتي في الترسانة الغربية، وطائرات استطلاع متقدّمة تنقل اليك المعلومات لحظيّاً. في حرب جورجيا كانت أكثر الذخائر المستخدمة «صمّاء» غير موجّهة، والغارات كثيراً ما تخطئ أهدافها. ظهر اليوم، أقلّه في الساعات الاستهلاليّة، جيش يستخدم الضربات في العمق والاصابة الدقيقة، صواريخ بالستية وجوّالة؛ وحولها نظام استطلاعٍ متقدّم، يرصد الخصم باستمرار ويحضّر مسبقاً للتقدّم ويقلّل من احتمال المفاجآت (للمقارنة، مع بداية الدخول الروسي الى جورجيا عام 2008 أصيب قائد الجيش الروسي الثامن والخمسين - المكلّف بالاجتياح البرّي - الجنرال اناتولي خروليف، وكاد أن يُقتل لأنّ رتله المدرّع وقع بالصدفة في كمينٍ جورجيّ على الطرقات الجبلية).
لاحظ معلّقون عسكريّون، قبل اشتعال الجبهات، مفارقة أنّ الحرب، إن وقعت، فسيكون الطّرف الاوكراني فيها هو الأقرب الى نموذج «الجيش السوفياتي» في حين أنّ الجيش الرّوسي قد أصبح في مكانٍ آخر، وتشكيلاته وتكتيكاته اليوم أقرب الى النّمط الغربي، فيما بنية الجيش الاوكراني، وتكوينه واسلوب قتاله، لا تزال شبه - سوفياتيّة (تجمع التقارير الغربية على أنّ قيادة الجيش الاوكراني، رغم الدعم الغربي وبرامج التدريب وضرورات الحرب، قاومت الاصلاح وحافظت على هيكليتها التقليديّة، وأنّ الجيش الاوكراني اليوم لم يتغيّر كثيراً عن ذاك الذي خاض الحرب عام 2014).
الغربيّون يحبّون أن يروا في اوكرانيا «أفغانستان» جديدة: شعبٌ يحمل السّلاح ضدّ خصمهم وهم يقومون بالتشجيع من بعيد ومدّه بالسّلاح


لم تكن الضربات الروسيّة الابتدائيّة كثيفةً وشاملة على طريقة الحروب الأميركيّة والحملات الجوّيّة الهائلة، بل كانت منتخبة ومحدّدة وتهدف الى خلق تأثيرٍ معيّن. نسخة روسيّة عن عقيدة دالصّدمة والرّعب». المسألة هي أنّ الغربيّين يحبّون أن يروا في اوكرانيا (وقبلها جورجيا) «أفغانستان» جديدة: شعبٌ يحمل السّلاح ضدّ خصمهم الرّوسي ويدميه ويستنزفه، فيما هم يقومون بالتشجيع من بعيد ومدّه بالسّلاح. العنصر المغيّب في هذه المعادلة هو حجم التّضحية التي يتطلّبها هذا السيناريو «البطولي» من الشعب الاوكراني. نعرف جميعاً معنى أن تخوض حرب غوارٍ ضدّ خصمٍ قوي، وما سيعنيه ذلك لأهلك وقراك ومدنك - وإن كان الغربيّون قد قرّروا أن حياة الاوكرانيين رخيصة وتستحقّ أن تُبذل في سبيل هذا الهدف النّبيل، فإن هذا لا يعني أن الاوكرانيين يحملون ذات التقدير المنخفض لقيمة حياتهم. قد تكون النخب الحاكمة في اوكرانيا وجورجيا سعيدة بتلقّي المنح الغربيّة ولعب أدوارٍ «سياسية» لصالحها ضدّ روسيا، ولكنّ الموت في سبيل ذلك موضوعٌ مختلفٌ تماماً. المشكلة الثانية في هذا المنطق هي أنّ غالبيّة الشعب الاوكراني، بحسب ما تقول الاستطلاعات، تهمّه مشاكل البطالة والمعيشة والفساد، وليس الصّراع الدّولي بين الغرب وروسيا، والكثير منهم قد لا يريد حرباً، يدفع ثمنها الأساسي والمباشر المدنيّون الأبرياء، من أجل صراعاتٍ لا يتحكمون بها وقراراتٍ تصدر في دولٍ بعيدة.
بالمعنى العسكري البارد: أثبتت تجارب سابقة أن الكثير من هذه الجيوش النظامية يميل الى الانهيار والتفكّك ما أن تبدأ في صفوفه الخسائر الحقيقيّة. عام 2008، مثلاً، بدأت وحدات جورجيّة كاملة بالهرب وترك معدّاتها على الطرق العامّة بعد توجيه عددٍ قليلٍ من الضربات التي خلّفت خسائر بشريّة. يبدو أنّ بوتين راهن على أنّ أمراً مماثلاً سيحصل في اوكرانيا، وأنّ عدداً قليلاً من الضربات المركّزة قد يكفي لتوليد مفعولٍ يشابه، بشكلٍ مصغّر، تأثير «الصّدمة والرّعب» - الذي يقوم على اغراقك بالغارات. لا تزال الاحداث على الأرض في بدايتها حتّى نحكم ولكن، عند كتابة هذه السطور، كانت بعض الصور تظهر لعرباتٍ اوكرانية هجرها جنودها، وتقارير عن انسحاباتٍ سريعة واستسلامات أمام التقدّم الرّوسي.

حُسم الأمر
قبل يومٍ واحدٍ من الحرب في اوروبا، طرح صديقٌ السؤال الذي يطرحه العديد من أصحاب العقول الباردة في الغرب ولا يجدون عليه اجابةً واضحة: لماذا؟ لماذا، أصلاً، يقوم الغرب باستعداء روسيا ومحاصرتها وتوجيه الأحلاف ضدّها ودعم الأنظمة التي تُعاديها؟ لا يمكن أن تكون المسألة، كما يقول السياسيون الغربيون، مسألة ايديولوجيا وطبيعة نظام؛ فالغرب يتحالف مع بعضٍ من اسوأ الديكتاتوريات في العالم طالما أنها تتعاون معه ولا تعاديه. والحجّة القديمة بأنّ اميركا «تحتاج» الى تهديدٍ روسيّ، يجمع الكتلة الغربيّة ويبقيها موحّدة تحت اشرافها وحمايتها، فالصّين اليوم موجودة، وهي عدوّ حقيقيٌ ماثلٌ وليس متخيّلاً، وأخطر وأقوى بمراحل من الخصم الروسي، وهو ما يجب أن يكون الاهتمام منصبّاً عليه، وأن تعقد تسوياتٍ مع الجميع في سبيل عزله. هل هي «روسوفوبيا» ثقافية، على طريقة الاستشراق السلبي؟ هل هي ارث الحرب الباردة واصرار الجمهور الغربي على أنّ روسيا، مهما قالت، ستظلّ العدوّ الايديولوجي «الأحمر»؟ أم هل أنّ الرأسمالية بشكلها الحالي «تحتاج» الى ابقاء مساحاتٍ واسعة من الكوكب، حتى في اوروبا، خارج نطاق المركز والمنافسة على القيمة؟
أمّا عن الرؤية الروسية لهذه المسألة، فأنا أنصح بقراءة الخطاب الكامل لبوتين الذي ألقاه الاثنين للشعب الرّوسي (يمكن الحصول على نصّ الخطاب بترجمةٍ رسمية على موقع الكرملين على الانترنت). قراءة الخطاب مفيدة لسببين: أنّ بوتين هنا يتوجّه الى كامل الشّعب الروسي والناطقين بالرّوسيّة قبيل الحرب، وهذا ليس كلاماً في مكتبٍ سياسيّ، وسيكون له تأثيرٌ كبيرٌ على فئات كثيرة في روسيا وخارجها، قوميّين وغير قوميّين. ثانياً، هذا الجمهور سيستمع الى الخطاب بأكمله، من أوّله الى آخره، وليس الى المقتطفات التي اختارها الاعلام الدّولي وركّز عليها. طوال 45 دقيقة، عاد بوتين في التاريخ الى القرن الثامن عشر وما قبله ليسرد أصل المشكلة في اوكرانيا (مثير استخدام التاريخ في الخطاب السياسي الرّوسي، حيث يعود بوتين الى أحداث العام 1924 والاختلافات بين لينين وستالين ليعطي سردية تاريخية للحدث؛ لا يمكن تخيّل رئيسٍ أميركيّ يتوجّه الى عموم الشّعب بهذا الاسلوب). يلوم بوتين الشيوعيين البلاشفة على مشكلة اوكرانيا مرّتين: الأولى حين «صنعوا» أوكرانيا من أجزاءٍ من روسيا القيصرية وبولندا وهنغاريا ورومانيا وجعلوها «جمهورية» صوريّة (هذا، بالمناسبة، لا يعتبر رأياً اشكاليّاً بين المؤرّخين)، والثانية حين وافق آخر الزعماء الشيوعيّين على تحويل هذه الجمهورية السوفياتية الى بلدٍ مستقلّ، يأخذ معه أرضاً روسيّة تاريخية، بعضها غزاها جنرالات روس واستولوا عليها من العثمانيين والتتار، كساحل البحر الأسود والقرم، ومع هذه الأرض الملايين من ابناء الاثنية الروسيّة.

ما تستشفّه من خطاب الرئيس الروسي هو أنه لا يعتبر أنه يذهب الى هذه الحرب بخياره، بل لأنّ باقي الحلول قد استنفدت


أكثر من ذلك، شرح بوتين لجمهوره بأنّه لم يختر المواجهة مع الغرب ولم يسعَ اليها: ظلّ بوتين يشير الى الأميركيين كـ «شركاء» حتى في خطابه الأخير،، شرح أنّه عرض على الغربيّين أكثر من سبيلٍ للتعاون رفضوها جميعاً، بل أنّه أكّد القصّة التي رواها كلينتون حول اقتراحه، عام 2000، بأن تُضمّ روسيا الى حلف الأطلسي. حتّى أن بوتين سأل، بصوتٍ مرتفع، السّؤال نفسه أعلاه: «حسنٌ، انتم لا تريدون أن ترونا كأصدقاء أو حلفاء، ولكن لماذا تجعلون منّا عدوّاً؟». الخطاب السائد اليوم هو أنّ هذا الغزو «حربٌ اختياريّة» يشننّها بوتين، ولكن السؤال هو عمّا إن كان بوتين نفسه يرى الأمر بهذه الطريقة. ما تستشفّه من خطاب الرئيس الروسي هو أنه لا يعتبر أنه يذهب الى هذه الحرب بخياره، بل لأنّ باقي الحلول قد استنفدت، ولم يعد مرور الوقت في صالح روسيا، مع استمرار التوسع الغربي وعزل البلد ومحاصرته بالعقوبات. لم يعد للعلاقة مع الغرب الا جانبها السّلبي: بوتين يعرف أنهم يستوردون النفط والغاز منه فقط لأن لا بديل بعد عن الغاز الروسي، وأنّهم لن يعزلوه عن نظام «سويفت» لأنهم يفهمون أنّه قد استعدّ لهذه الاحتمالية، ولكي لا يزول ما تبقى من ثقة في النظام المالي الغربي (هم سيحاولون، على الأرجح، تحقيق تأثيرٍ مشابه عبر عقوباتٍ على المصارف الروسية والشركات الكبرى)، كما أنّ «نوردستريم 2»، «الجزرة» الأخيرة في العلاقة مع الغرب، أعلن الالمان قبل أيّامٍ أنّه لن يشغّل. إن كان استخدام القوة العسكريّة متاحاً اليوم لتغيير الوقائع في الجوار ووقف التمدّد الغربي والتفاوض من جديد على وضع روسيا، فهو قد لا يعود كذلك بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً، حين تصبح روسيا دولةً مفقرة، معزولةً، شبه - صناعية، على هامش كتلة اوروبية ضخمة وسلاح الـ«ناتو» موجّهٌ الى رأسها باستمرار.
ذكّر بوتين بالوضع الاقتصادي البائس في اوكرانيا (اوكرانيا هي البلد الوحيد من الكتلة الشرقية الذي يقلّ دخل الفرد فيه اليوم عنه عام 1990، أي قبيل سقوط الاتحاد السوفياتي)، وأن 15 في المئة من الشعب يذهب الى بلادٍ مجاورة للعمل في وظائف يدوية قليلة الأجر؛ قال بوتين إن الفساد مشكلةٌ في روسيا نفسها، ولكنّه يصل الى درجاتٍ خياليّة في اوكرانيا، تحت نظر الغربيين ومؤسساتهم ومستشاريهم. ثمّ اتّهم السلطة في كييف بأنّها، بدلاً من معالجة هذه المشاكل، تنصرف الى سياسات شعبويّة مثل «اقتلاع الشيوعية» (decommunization) والعداء للماضي السوفياتي ورموزه واللغة الروسيّة. سمّى بوتين الشركات الاوكرانية الصناعية الكبرى التي أنشئت في أيام السوفيات وخرجت من الخدمة أو أفلست في السنوات الأخيرة، وذكّر بالخسائر التي وقعت على اوكرانيا حين انقطعت صلاتها بروسيا وتوقفت أوجه التعاون الكثيرة مع «الوطن الأمّ».
يجب أن تكون النخبة الاوكرانية الحاكمة، بحسب بوتين، ممتنّة للشيوعيين الذين أمّنوا لهم بلداً سيّداً يتزعّمونه ويثرون على حسابه، بدلاً من اعتبار أنفسهم «ضحية» للاتحاد السوفياتي، وأنّ الشيوعيّة «شرٌّ» يوازي النازيّة (هذا من بين قوانين «اقتلاع الشيوعية والنازية» التي تم اقرارها في اوكرانيا في السنوات الأخيرة، تحت ضغط اليمين القومي الاوكراني). «اوكرانيا السوفياتية هي نتاج سياسات البلاشفة»، قال بوتين في خطابه يوم الاثنين، «يمكن أن يسمّى البلد عن حقٍّ ‹اوكرانيا فلاديمير لينين›، فهو من خلقه وهندسه … واليوم تقوم ‹الذّريّة الشاكرة› بإسقاط تماثيل لينين في اوكرانيا. هم يسمّون ذلك اقتلاع الشيوعيّة. هل تريدون اقتلاع الشيوعيّة؟ جيّد جدّاً، هذا يناسبنا بالكامل؛ ولكن لماذا التوقّف في المنتصف؟ نحن مستعدّون لأن نريكم ما سيعنيه حقّاً اقتلاع الشيوعيّة بالنسبة الى اوكرانيا».