أكثر من 100 ألف شاب ساروا يوم 28 تشرين الثاني 2021 في العاصمة الكوبية هافانا، تكريماً لذكرى طلاب الطبّ الثمانية الذين أعدمهم الاستعمار الإسباني عام 1871. العِبرة من ذلك المدّ البشري ظهرت في كلمات السكرتيرة الأولى لـ«اتحاد الشباب الكوبيين»، أيلين ألفاريز: «الشباب هم أبطال الرواية في كلّ المراحل الأساسية، في الإنتاج والاقتصاد وفي أحداثٍ مشابهة. نحن ملتزمون بالثورة… ونسير هنا نيابةً عن الشعب الكوبي». أتى هذا الحراك الشعبي الشبابي في هافانا (نُظمّت لقاءات في مدن وبلدات كوبية أخرى)، كردّ على دعوات معارِضة إلى التظاهر في 15 تشرين الثاني لـ«دعم الحرية في كوبا»، انتهت بتجمّع أفراد معدودين أمام منازلهم، بقمصان بيض، وهتافهم في الفراغ أمام جيرانهم الذين راقبوهم بلا مبالاة. أمّا قائد المعارضة، يونيور غارسيا، فعاد إلى إسبانيا لينشر صورة له أخيراً مع ليوبولدو لوبيز، الذي قاد عام 2019 محاولة انقلاب ضدّ الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو. تَختصر هذه المشهدية الواقع السياسي لكوبا الاشتراكية: قلعة بحرية تُشكّل حصناً منيعاً أمام أطماع المُستعمر الأميركي، جاهزةٌ لتذكيره عند كلّ محاولة لغزوها، بأن دفاعها عن كرامة شعبها وسيادة أراضيها تعود إلى ما قبل 150 عاماً. «نحن ثورة نُدرك أن نموذجها يجعل مَن يُعارضها غير مرتاح، ثورة لن نُهمل الدفاع عنها»، قال رئيس كوبا، ميغيل دياز كانيل، في يوم الدفاع الوطني.تَبلغ مساحة كوبا 109.884 كلم مربع، ويسكنها 11.3 مليون إنسان. جزيرةٌ صغيرة مقارنةً بالولايات المتحدة الأميركية، التي لم تتمكّن، منذ عام 1959 وحتى اليوم، من إعادة السيطرة على لؤلؤة الكاريبي. في عام 2003، أنشأ الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الإبن، منظّمة «المساعدة في تحرير كوبا»، التي رَصدت لفترة عامَين 80 مليون دولار، بهدف تمويل برامج لتطوير «المجتمع المدني»، والتحضير لـ«ما بعد فيديل كاسترو» والانتقال نحو الرأسمالية. شكّلت هذه الخطوة محطّة في مسار تشديد الحصار المفروض على كوبا منذ 62 عاماً، ليثمر الزرع الأميركي أعمال شغبٍ، وتظاهرات بالكاد شارك فيها مئات الكوبيين. عام 1959، بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تُخطّط للقضاء على ثوّار «26 يوليو» الذين انتصروا بداية ذلك العام، مُسقِطين نظاماً حليفاً لواشنطن. ولذا، شغّلت الـ«سي آي إي» عملاء داخل كوبا، قتلوا المدنيين وتسبّبوا بأضرار اقتصادية، قبل أن ينتقل أعضاء الوكالة إلى العمل مباشرةً في الداخل الكوبي، منذ عام 1977، تحت ستار «العمل الدبلوماسي». وفي نيسان 1961، بلغت الهجمة الأميركية ذروتها بغزو خليج الخنازير، الذي باء هو الآخر بالفشل، وأعقبه إعلان فيديل كاسترو في تلك السنة كوبا دولة اشتراكية. وفي العام التالي، أعدّت وزارة الدفاع الأميركية «عملية نورثوود» لإغراق القوارب الآتية من كوبا، توازياً مع بدء تدريب المهاجرين الكوبيين على القيام بأعمال شغب داخل البلاد. أمّا في عام 1974، فقد اتّخذت الضغوط شكلاً آخر تَمثل في تنفيذ أعمال عنف ضدّ الديبلوماسيين الكوبيين في أميركا وأوروبا. وفي عهد بيل كلينتون، صدر قانون «هيلمز بيرتون» كهدية انتخابية للناخبين من أصول كوبية، لتشمل العقوبات الشركات الأجنبية التي تعمل في الجزيرة.
سقوط الاتحاد السوفياتي شكّل بالنسبة إلى واشنطن الفرصة المثالية لتدمير النظام الكوبي


سقوط الاتحاد السوفياتي وما أعقبه من ضيق معيشي عاشته كوبا، شكّلا بالنسبة إلى واشنطن الفرصة المثالية لتدمير النظام، حيث انطلقت عام 1994 قوارب من ميامي وفلوريد لإشعال أعمال شغب في بلدات ومدن كوبية. وهو ما ردّ عليه فيديل بالانتقال إلى منطقة ماليكونازو حيث الاحتجاجات، ليسير بين أهلها مستمعاً إليهم. وفي صيف 1997، شنّ عملاء واشنطن سلسلة هجمات إرهابية، استهدفت القطاع السياحي، وأدّت إلى مقتل مواطن إيطالي. وفي أيار 2002، قبل غزو العراق، اتهمت الولايات المتحدة كوبا بتطوير أسلحة كيميائية، لتستمرّ الضغوط عقب ذلك، وصولاً إلى عهد باراك أوباما. حاول الأخير «تحييد» كوبا من خلال اعتماد استراتيجية «القوّة الناعمة»، ولكن الأمر لم يتجاوز عملياً حدود إنتاج نسخة محدّثة من الحصار، هذه المرّة من بوابة «فتح الإنترنت». يومها، ظهر في الجزيرة موقع «زونزونيو»، أو ما يُعرف بـ«تويتر» الكوبي، الذي اعتقدت إدارة أوباما أنه، كما انطلق «الربيع العربي» من منصّات التواصل الاجتماعي، فمن الممكن أن يبدأ «ربيع كوبا» منه أيضاً. ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سُلّطت الضغوط القصوى على القيادة الكوبية بعدما رفضت الانقلاب على نظام مادورو في فنزويلا، ليتمّ إثر موقفها هذا منْع التحويلات المالية عن الجزيرة بالكامل، ووقف السفر إليها، وفرض عقوبات على الشركات التي تعمل فيها وتستخدم مواد أميركية الصنع. وعلى الطريق نفسه، سار جو بايدن الذي وصف كوبا بـ«الدولة الفاشلة»، وأعلن فرض عقوبات على كوبيين.
يوم 11 تموز 2021، اندلعت احتجاجات في البلاد، وُصفت بـ«أوّل احتجاجات عنفية منذ 1994»، وذلك بدعم من الإدارة الأميركية، لم يقتصر على حدود الموقف السياسي والتحريض الإعلامي، بل وصل إلى إنشاء شبكات إنترنت مجّاني من داخل الولايات المتحدة لتعمل في الداخل الكوبي، تحت شعار «الوطن والحياة»، المستوحى من شعار «الوطن أو الموت» الثوري. ومرّة أخرى، انتقل الرئيس الكوبي إلى المنطقة التي انطلقت منها أعمال الشغب، تماماً كما فعل فيديل عام 1994، ليقود مسيرة داعمة للنظام، مصارِحاً المتظاهرين بالتحدّيات التي تواجهها بلادهم. واستُتبع ذلك بزيارات قام بها «اتحاد الشباب الشيوعي» إلى أحياء كوبا الأكثر فقراً، في استعادة لـ«معركة الأفكار» التي أطلقها فيديل عقب انتصار الثورة. كيف صمدت هذه الدولة أمام كلّ المحاولات الأميركية لإخضاعها؟ يجيب الديبلوماسي في وزارة الخارجية والمغتربين الكوبية، السفير خوسيه إنريكي إنريكيز، «الأخبار»، بأن الأسباب عديدة، و«من أهمّها التماسك بين الشعب والحكومة، مثلاً عام 2019 صوّت 86.85 في المئة من السكّان لصالح الدستور الجديد، ما أعطى دفْعاً قوياً للنظام الاشتراكي». ويضيف أن الشعب الكوبي «مُثقّف سياسياً، يعرف أهداف السياسيين الأميركيين وعملائهم الكوبيين. لا شكّ في أن العالم آخذ في التغيّر، وقد يكون للعدّو تأثير كبير على مستوى الشباب. المهمّة صعبة ولا يُمكن تحقيقها إلا بتقوية الروابط والتواصل بين الشعب والحكومة وتحقيق التقدّم».
حالياً، يُعقد في كوبا «منتدى الأعمال 2021»، بمشاركة حوالى 2300 شخص، من 86 دولة، للبحث عن آفاق اقتصادية واستثمارية جديدة، تحديداً في قطاع الطاقة البديلة والبحث العلمي. مساعٍ لا شكّ في أنها ستدفع واشنطن مجدّداً إلى تسعير حربها ضدّ الجزيرة، التي لا تزال تمثّل تحدّياً رئيساً للولايات المتحدة، لا لأنها أسقطت نظاماً حليفاً للأخيرة (باتيستا)، أو لأنّها أسّست دولة اشتراكية كانت حليفة للاتحاد السوفياتي، أو لأنها منعت واشنطن من استغلال مواردها، فقط، بل الأخطر بالنسبة إلى الدولة العميقة الأميركية، أن كوبا تُجسّد مثالاً ثورياً لكلّ أطياف اليسار في أميركا اللاتينية.