تتشعّب المعضلة التي تحيط بوسائل التواصل الاجتماعي، وتنطلق من القيَم الأخلاقية، واحترام الخصوصية، ولا تنتهي عند الآثار النفسية.شركة "فايسبوك"، بشكل خاص، كانت محطّ اهتمام وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، منذ سنوات في هذا المجال، وذلك بناءً على تاريخها المليء بفضائح خصوصية البيانات. ومن بين هذه الفضائح، سماحها لشركة البيانات "Cambridge Analytica" بالوصول إلى البيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مستخدم لأهداف سياسية، وتوسيع قدرة 150 شركة - بما فيها "مايكروسوفت" و"أمازون" و"ياهو" - على الوصول إلى المعلومات الشخصية الحسّاسة للمستخدمين.

الفرق بين "القيَم" والواقع
بحسب ما هو منشور على موقعه على الإنترنت، وفي رسالة المدير التنفيذي، مارك زوكربيرغ، فإنّ مهمّة "فايسبوك" المُعلنة، تتمثّل في "منح الأشخاص القوّة لبناء المجتمع، وتقريب العالم من بعضه البعض". لكنّ نظرة أعمق على نموذج أعماله، تشير إلى أنّ التفرقة بين الناس مربحة أكثر بكثير. فمن خلال إنشاء "فقاعات المرشح" (filter bubble) - وهي خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي المصمّمة لزيادة المشاركة، بالتالي إنشاء غرف صدى حيث يحقّق المحتوى الأكثر تحريضاً أكبر قدر من الرؤية - يستفيد "فايسبوك" من انتشار التطرّف، والبلطجة، وخطاب الكراهية، والمعلومات المضلّلة، والعنف الخطابي. وقد ظهر فشل الشركة في التحقّق من التطرّف السياسي، والتضليل المتعمّد، وغيرها من الأمور، بشكل واضح، خصوصاً عندما تبدو منحازة إلى طرف من دون آخر، وهو الأمر البارز، مثلاً، في الصراعات التي تشهدها المنطقة، عندما يحجب الموقع صورة لزعيم سياسي، ويسمح بأخرى.
من جهة أخرى، يمكن الإشارة إلى القيَم الأساسية الخمس المُعلنة لـ"فايسبوك"، وهي كما يلي: كن جريئاً؛ التركيز على التأثير؛ تحرّك بسرعة؛ كن منفتحاً؛ وبناء قيمة اجتماعية.
وبالاعتماد عليها، يمكن التأكّد من أنّ حماية البيانات الخاصّة للمستخدمين، ليست همّاً أساسياً، الأمر الذي يُعتبر إغفالاً صارخاً. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، والإشارة إلى أنّ القيَم الحيّة لـ"فايسبوك" تتعارض مع قيَمه المعلنة:
- أوّلاً، في حين أنّ الجرأة يمكن أن تكون فضيلة، إلّا أنّ التهوّر هو عيب في الشخصية. وتشير العديد من الخيارات المتاحة عبر الموقع، إلى أنّ القيمة الفعلية لـ"فايسبوك"، قد تتمثّل في شعار "كن متهوّراً".
لطالما كان "فايسبوك" محطّ اهتمام واسع بناءً على تاريخه المليء بفضائح خصوصية البيانات


- ثانياً، يهدف "التركيز على التأثير"، إلى حلّ "أهمّ المشكلات" وعدم إضاعة الوقت في قضايا أقلّ أهمية. وقد كتب زوكربيرغ في رسالته: "نحن لا نستيقظ في الصباح بهدف أساسي هو جني الأموال". ولكنّ إجراءات شركته تشير باستمرار إلى أنّ خصوصية البيانات هي مسألة هامشية، وأنّ القيمة الحقيقية هي "التركيز على جني أكبر قدر ممكن من المال".
- ثالثاً، يعكس "التحرّك السريع" الاعتقاد بأنّ التحرّك بسرعة وارتكاب الأخطاء، أفضل من التحرّك ببطء وتفويت الفرص. وقد كشفت المقابلات مع موظّفين سابقين في "فايسبوك"، أنّ بعض المديرين التنفيذيين والمهندسين نظروا إلى المراجعات الإلزامية الجديدة للمنتجات والميّزات الجديدة المتعلّقة بمخاوف خصوصية البيانات، على أنّها "عائق أمام الابتكار والنمو السريع".

ازدياد حدّة الأمراض النفسية؟
وفقاً لبعض التقديرات، يستخدم ما يقرب من أربعة مليارات شخص في جميع أنحاء العالم مواقع التواصل الاجتماعي. وقد دفع هذا الاستخدام خبراء الصحّة العقلية، إلى التحقيق في ما إذا كانت الشعبية الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً في الاكتئاب.
ومن هذا المنطلق، يمكن الإشارة إلى حقائق عن وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب:
• وجدت دراسة نُشرت في مجلّة "لانسيت"، عام 2018، أنّ الأشخاص الذين يتصفّحون "فايسبوك"، في وقت متأخّر من الليل، كانوا أكثر عرضة للشعور بالاكتئاب والتعاسة.
• وجدت دراسة أخرى، عام 2018، أنه كلّما قلّ الوقت الذي يقضيه الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي، قلّ شعورهم بالاكتئاب والوحدة.
• وجدت دراسة أُجريت عام 2015، أنّ مستخدمي "فايسبوك" الذين شعروا بالحسد أثناء وجودهم على موقع التواصل، كانوا أكثر عرضة للإصابة بأعراض الاكتئاب.

سببية أم ارتباط؟
تكشف بعض الدراسات حول وسائل التواصل الاجتماعي والصحّة العقلية، أنّ هناك علاقة بين مواقع التواصل الاجتماعي والاكتئاب. ويذهب بحث آخر إلى أبعد من ذلك، حيث وجد أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قد تسبّب الاكتئاب. وقد نُشرت دراسة تاريخية عن الموضوع، بعنوان "لا مزيد من الخوف: الحدّ من وسائل التواصل الاجتماعي يقلّل الشعور بالوحدة والاكتئاب"، في مجلّة "the Journal of Social and Clinical Psychology" عام 2018، ووجدت أنّه كلّما قلّ استخدام الأشخاص لوسائل التواصل الاجتماعي، قلّ شعورهم بالاكتئاب والوحدة.
كذلك ثمة ضرر آخر لوسائل التواصل الاجتماعي النفسي يتمثل في اتساع دائرة التنمّر. فقبل استخدامها، كان على الأطفال القلق فقط بشأن التنمّر في ساحات المدرسة، في الغالب. لكنّ هذه الوسائل أعطت المتنمّرين طريقة جديدة لتعذيب ضحاياهم.