لم تكن مطالبة رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، بإضافة 5 مليارات شيكل (حوالي مليار دولار/ الدولار: 3.27 شيكل) إلى الموازنة السنوية للجيش لمدّة خمس سنوات متواصلة، وذلك على حساب متطلّبات المجتمع والدولة في الشؤون الأخرى، إلّا تعبيراً عن إدراك المؤسّسة العسكرية حجم المخاطر المتصاعدة ضدّ إسرائيل في بيئتها الإقليمية، ومؤشّراً إلى وجود تقدير لدى هذه المؤسّسة، التي تقرّ بأن ما هو قائم حالياً لا يلبّي المطلوب، بضرورة رفع مستوى الجهوزية في مواجهة تلك المخاطر، خصوصاً في ظلّ تعاظُم القدرات الإيرانية، النووية وغيرها، وإمكانية رفْع العقوبات عن إيران، في سيناريو يمثّل أقصى ما تتخوّف منه إسرائيل في المرحلة الحالية. وتنطلق المؤسّسة العسكرية، في صياغة مطالبها، من تحديد درجة خطورة المتغيّرات القائمة والمحتملة، ودرجة معقولية تَحقّقها، ثمّ تنتقل إلى بلورة استراتيجية مضادّة تتطلّب بدورها تحديد موارد وإمكانات، ليتمّ لاحقاً تحديد القيمة الإجمالية للموازنة، ومن ثمّ توزيعها بما يتلاءم مع المعايير التي يضعها الجيش. وعلى رغم استمرار المساعدة الأميركية السنوية البالغة 3.8 مليار دولار، إلا أنه يُتوقّع أن يواجه الجيش صعوبات في تلبية المزيد من المطالب، بعد قرار الرئيس الأميركي، جو بايدن، عدم السماح باستثناءات وخروقات لموازنة الولايات المتحدة للعام 2022.ويأتي الحديث عن الموازنة العسكرية في سياق البحث في الموازنة العامة التي تمّ تأجيلها لمدّة سنتين نتيجة الأزمة الحكومية المفتوحة التي عانت منها إسرائيل. ولا تقتصر مطالب قيادة الجيش، في هذا السياق، على زيادة سنوية تبلغ 5 مليارات شيكل، بل تشمل أيضاً 3 مليارات شيكل لتغطية نفقات العدوان الأخير على قطاع غزة، والذي استمرّ 11 يوماً في شهر أيار الماضي، ومليار شيكل للاعتناء بمُقعدي الجيش، ومصاريف أخرى لمرّة واحدة. ومن ضمن المشكلات المستجدّة، أيضاً، أن الجيش يريد المصادقة على خطّة خمسية لبناء القوة، بقيمة 29 مليار شيكل عن كلّ سنة من السنوات الخمس المقبلة، وذلك قبل المطالبة بميزانيات أخرى مثلما يحدث في كلّ عام، في حين تريد وزارة المالية البحث في موازنة العام 2022 فقط. وفي ظلّ الخلاف المشار إليه، عَقد كوخافي اجتماعَين مع رئيس الوزراء نفتالي بينت، ووزير المالية أفيغدور ليبرمان، لبحث تلبية مطالب الجيش. والجدير ذكره، هنا، أنه مع بحث كلّ موازنة سنوية، تشهد إسرائيل حالة من التجاذب بين وزارتَي المالية والأمن، على خلفية النقاش حول الأولويات. وفيما تتبنّى الأولى فكرة مفادها أن أيّ زيادة في الموازنة الأمنية ستكون على حساب القضايا الاجتماعية، تُظهر التجارب السابقة أن الغلبة دائماً ما تكون لصالح الجيش ومطالبه. إلّا أن الوضع الاقتصادي الذي نتج من أزمة "كورونا" شَكّل عامل ضغط إضافي على مؤسّسة القرار السياسي، سيترك حتماً تأثيراته على هامش رصد موازنات كبرى لصالح الجيش، حتى مع الدعم الأميركي. وما يضاعف حجم التحدّي هو أن تلك التأثيرات يوازيها تصاعد قدرات محور المقاومة، وبروز إمكانية رفع العقوبات عن إيران واستمرار تطوّرها نووياً في الوقت نفسه، وهو ما ستترتّب عليه تداعيات تتّصل بإيران اقتصادياً وعسكرياً واستراتيجياً، وبالمنطقة، وتالياً بالأمن القومي الإسرائيلي.
يأتي الحديث عن الموازنة العسكرية في سياق البحث في الموازنة العامة التي تمّ تأجيلها لمدّة سنتين


على أن التحدّي الأكبر لا يتمثّل في المتغيّرات التي تترقّبها إسرائيل في المدى المتوسّط فحسب، بل أيضاً في ما طرحه القادة العسكريون أمام بينت من أن الجيش يتمتّع بقدرات «متوسطة» من حيث الكفاءة لشنّ عملية واسعة ضدّ إيران. وعلى رغم أن هذا التقدير مرتبط بتبرير المطالبة برفع مستوى الموازنة، إلّا أنه يقيّد أيضاً خيارات المستوى السياسي، ويُقوّض الكثير من رسائل التهويل التي يكرّرها القادة الإسرائيليون. لذلك، لو كان بنيامين نتنياهو لا يزال رئيساً للحكومة، لم يكن ليسمح بإخراج التقدير المذكور إلى وسائل الإعلام، خصوصاً أن أسلوبَي التهويل والمبالغة في تصوير قدرات إسرائيل يحتلّان مكانة هامّة في استراتيجيته في مواجهة إيران. وكان الجيش أعدّ خطّة بناء قوّة متعدّدة السنوات، سُمّيت «تنوفا/ زخم»، في العام 2019، تعزَّزت الحاجة إليها على وقع التطوّرات النووية الإيرانية والإقليمية. لكن الأزمة السياسية الحكومية في إسرائيل حالت دون المصادقة على الموازنة العامة، وهو ما انعكس أيضاً على الموازنة الأمنية. إلّا أنه مع تشكيل حكومة جديدة، لم يَعُد بالإمكان مواصلة سياسة التسويف في قضية الموازنة، لأسباب متعدّدة، اقتصادية وسياسية وقانونية وعسكرية.
على أيّ حال، تؤكّد مطالب الجيش وتقديراته فشل إسرائيل في سباق الجهوزية مع إيران ومحور المقاومة. فبعد 15 عاماً على حرب 2006، وبعد نحو عقدين من صعود البرنامج النووي الإيراني، لا يزال الكيان العبري يتحدّث عن رفْع جهوزية جيشه كي يرتقي إلى مستوى التهديدات. ومع كلّ خطة جهوزية أُعلنت منذ ذلك الحين، بدءاً من «تيفن» مروراً بـ«جدعون» وصولاً إلى «تنوفاه»، كانت الدعاية الإسرائيلية تتمحور حول جاهزية الجيش، في أعقاب انتهاء الخطة، لخوض حروب تُغيّر المعادلة الإقليمية. إلّا أن التطوّرات اللاحقة كشفت ولا تزال، ضيق خياراته، من دون الاستهانة بمستوى قدراته، والسبب بكلّ بساطة هو أن محور المقاومة يواكب جهوزية العدو بالعمل الدؤوب على مواصلة تطوير قدراته على المستويات كافّة، الأمر الذي من شأنه تقويض مفاعيل أيّ خطّة يعدّها الجيش الإسرائيلي.