«تعالَ أريدُ أن أحلم، أفغانستان التي نعرفها قد اختفت مِن على سطح الأرض ولا تستطيع الهرب من الدمّ، أحلمُ أن تتفتَّح الزهور في شوارع كابول وتعود الموسيقى تعزف في المقاهي كما في السابق، وتُحلِّق الطائرات الورقية عالياً في سمائنا. أحلمُ أن تعود إلى كابول وتشاهد منبع الطفولة مرّة أخرى، أحلمُ أن أجدكَ هناك، أنا في انتظارك».من رواية «عدّاء الطائرة الورقية»، لخالد حسيني

لطالما كانت أفغانستان حُلُماً. ليس من قَبيل الصدفة أن هذا البلد، الواقع عند مفترق طرق آسيا الوسطى و«طريق الحرير»، كان محطَّ أطماع مختلف الحضارات طوال التاريخ. احتفظت أفغانستان بأصالتها، وبالكاد تأثّرت بالحداثة. ولا يزال السفر عبر هذا البلد، رحلةً حقيقية عبر الزمن، انطلاقاً من فتوحات الإسكندر الأكبر، والمرور «المدمِّر» لجنكيز خان، و«اللعبة الكبرى»، والغزو السوفياتي، والحرب الكونية التي شنّتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لـ«مكافحة الإرهاب» على أرضها. لقد كان الشعب الأفغاني، محارِباً ومقاوِماً، وقادراً دائماً على صدّ الغزاة. منذ نهاية عام 2001، عام سقوط نظام «طالبان»، سعت القوات الأميركية و«حلف شمال الأطلسي» إلى القضاء على تنظيم «القاعدة»، الموجود بشكل أساسي في جنوب أفغانستان، وسرعان ما تحوّل هذا الهدف إلى استنزاف مادّي وبشري طويل الأمد وباهظ الثمن لهذه القوات ولحلفائها.

كيانٌ يتشكّل باستمرار
حين نتحدّث عن نشأة أفغانستان تاريخياً، لن نجد كياناً واضحاً اسمه أفغانستان. هو كيانٌ كان يتشكّل باستمرار، بفعل ضغوط جيوسياسية خارجية. ولادةُ الدولة الأفغانية، داخل حدودها الحالية، ترجع إلى «الدولة الأفغانية الثانية»، التي تشكَّلت في القرن التاسع عشر على يد دوست محمد خان، مؤسّس أسرة باركاي الأفغانية، بعد سقوط الإمبراطورية الدورانية (الدولة الأفغانية الأولى 1747-1826) ونهاية الحرب الأنجلو-أفغانية الأولى عام 1842. وكان قيام هذه الدولة ممكناً لأنّ الإمبراطورية البريطانية أرادت، في حينه، دولة عازلة بين جزر الهند البريطانية والإمبراطورية الروسية. دولة خاضعة لسيطرتها وقوية بما يكفي لتجنُّب أيّ احتمال للتجزئة والتفكُّك. عملياً، كانت بريطانيا هي المسؤولة عن الحدود الأفغانية الحالية التي تمّ تشكيلها بشكل أساسي منذ عام 1880 على يد الأمير عبد الرحمن خان، حفيد دوست محمد خان، الملقّب بـ«الأمير الحديدي» (1901-1880). فامتلاك سلطة قوية في كابول، يستوجب تعيين حكّام لتجنُّب ظهور قوى محلية قوية، بشرط إعادة توزيع التمويل الخارجي، وهو ما ساهم بشكل كبير في تحويل أفغانستان إلى دولة ريعيّة، في ظلّ قلّة الموارد الطبيعية، والاقتصاد الزراعي المدمَّر إلى حدّ كبير، وضعف الاستثمار المحلّي والقدرة المالية الاستخراجية (غياب نظام ضريبي يسمح بإعادة الثروة). وفي ظلّ اقتصادها الريعي المصطنع، اعتمدت أفغانستان، منذ 50 عاماً، بشكل كبير، على المساعدات الخارجية الثنائية والمتعدّدة الأطراف لتحقيق أهدافها الإنمائية المتواضعة. واستُخدم هذا التمويل لتقوية نفوذ السلطة المركزية على حساب تنمية البلاد؛ إذ ظلّت الأطراف مهمَّشة، وخصوصاً المناطق الريفية، حيث ولدت الثورات الأفغانية ضدّ السلطة المركزية والنفوذ الأجنبي، منذ القرن التاسع عشر.
كرّرت الولايات المتحدة الخطأين البريطاني والسوفياتي بدعم دولة مركزية ريعية


عن أخطاء واشنطن
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2001، اندلعت الحرب في أفغانستان ردّاً على هجمات الـ11 من أيلول/ سبتمبر. بعد 20 عاماً من الصراع - وهي أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة على الإطلاق وأكثرها تكلفة -، أصبحت واشنطن تحاول تهيِئة الظروف لعملية سلام غير مشروطة مع «طالبان»، لتنسحب من أفغانستان عاجزةً عن حسم حربها وتحقيق أهدافها في أرض الأفغان، مقبرة الإمبراطوريات. كان التدخّل الأميركي، عام 2001، انتقامياً إلى حدّ كبير، إذ افتقر إلى خطّة واضحة ومتماسكة طويلة الأجل. وقد نصّت «اتفاقية بون»، والخطط الدولية اللاحقة، على إنشاءٍ سريع لدولة ديموقراطية شديدة المركزية. لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ نهاية عام 2001، ارتكبت أخطاء وخيارات سيئة تسمح بالحديث عن هزيمة استراتيجية في أفغانستان، خصوصاً بعد إعلان الرئيس جو بايدن الانسحاب النهائي للقوات الأميركية بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول.
كرّرت الولايات المتحدة الخطأين البريطاني والسوفياتي بدعم دولة مركزية ريعية، فعملت عن كثب مع أمراء الحرب والزعماء القبليين وتجّار المخدرات، وساهمت في خلْق حكومات فاسدة. مشكلةُ هذا النهج «الريعي» تكمن في أنه فشل في مساعدة المناطق الريفية الفقيرة التي تنطلق منها حركة «طالبان». فالتسامح الأميركي مع هذه الظاهرة، يعني، وفقاً لـ«أوراق أفغانستان» الشهيرة، التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست»، أن الحكومة الأفغانية تحوّلت إلى نظام حكم «كليبتوقراطي» (راجع مقال كريغ ويتلوك، 13 كانون الأول/ ديسمبر 2019). و«أوراق أفغانستان» هذه، هي وثائق حكومية تضمّنت ملاحظات حول مقابلات أجراها المفتّش العام المختصّ بإعادة إعمار أفغانستان. وفيها أقرّ العديد من المسؤولين الأميركيين باستحالة الفوز في هذه الحرب، فيما وجدت استطلاعات الرأي أن غالبية الأميركيين ينظرون إلى الحرب على أنها فاشلة.
في مواجهة السلطة السياسية والإدارة المركزية الفاسدة، كان يُنظر إلى «طالبان»، من قِبَل جزء من السكان، على أنها وحشية ومتطرّفة، لكنّها فعّالة وقادرة على إعلاء العدالة، خصوصاً في ظلّ الرفض الوطني للنفوذ والغزو الأجنبيَّيْن. يمكن القول إنّ شرعية «طالبان» استُمدَّت من محاربتها للفساد والغزاة، وكانت بمثابة حجّة دعائية ناجحة للتمرّد ضدّ كابول. لقد فشلت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها، فهي لم تتمكّن من إرساء نظام «ديموقراطي»، وأخفقت في إعادة إعمار أفغانستان، كما لم تنجح في بناء جيش أفغاني قويّ وقادر على حماية أراضيه ومواجهة حركة «طالبان» (في الواقع، لا يقدّم الجيش الأفغاني أيّ ضمانة للاستقرار في المستقبل، ولديه نقص كبير في القدرات والخبرات العسكرية، كما يعاني من معدّلات استنزاف عالية، ويواجه مشاكل لوجستية ضخمة).
ولن يكتمل تحليل الأخطاء الأميركية في الملف الأفغاني، من دون إبراز ما يمكن اعتباره سوء قراءة جيوسياسية للبيئة الإقليمية الأفغانية، أو بالأحرى سياسة أميركية عامّة تتعارض مع الواقع الجيوسياسي لهذه البيئة. وفي المحصّلة، يمكن القول إنّ التاريخ يعيد نفسه في أفغانستان. فها هي القوات الأميركية تنسحب، من دون أن تتمّ استعادة الاستقرار والسلام. لكن هناك عيوب لا تزال متأصّلة في أفغانستان باعتبارها «أمّة»؛ فهناك صعوبة على مستوى بناء هوية وطنية قوية، ترجع بشكل أساسي إلى إخفاق الدولة المركزية في إدارة شؤون البلاد. وفيما يُنظر إلى قوات «التحالف» على أنها مجموعة من الغزاة، خصوصاً بين سكّان الأرياف، تعيد «طالبان» تعريف وجودها، حيث يتقبّلها السكان باعتبارها من «أبناء البلد».