في المرحلة الأولى لإعلان «الحرب على الإرهاب» وغزو أفغانستان بين عامَي 2001 و2002، والتي أعقبت دعوةَ الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، العالم بأسره إلى المشاركة فيها، يوم أدلى بقوله الشهير: «مَن ليس معنا، فهو مع الإرهاب»، بدأ انتشار القوات الأميركية في إحدى أهمّ المناطق الاستراتيجية في آسيا، والتي تقع غربيّ الصين، وإلى الشمال الغربي من الهند، وجنوبيّ دول آسيا الوسطى (طاجيكستان، كازاخستان وأوزبكستان)، وشرقيّ إيران، وفي قلب باكستان (تَحدّها من الجنوب والشرق). وهو انتشار أثار ريبة هذه الدول من مستقبل الوجود الأميركي في المنطقة ومآلاته، حتى إنه شجّع بعضها، وخصوصاً إيران وروسيا والصين، على الاشتغال على توريط القوات الأميركية واستنزافها، وتالياً منعها من تحقيق أهدافها، سواء تلك المعلَنة أو غير المعلَنة. كانت النتيجة أنْ فشلت أميركا في تحقيق هدفها الرئيسيّ، أي القضاء على قيادات تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان». فشلٌ قاد إلى آخر، حين قرّرت الولايات المتحدة، في المرحلة الثانية، توسيع نطاق حربها لتشمل منطقة الشرق الأوسط من بوّابة العراق، وتوزيع جهدها على مسرحَين للحرب، لتضعف، في ظلّ خياراتها المستجدّة، سيطرتُها على كابول. وهي خيارات عُدَّت «كارثية» في تقدير التحدّيات التي تواجه الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية على المديَين المتوسّط والبعيد. ومع الفشل الذي رافق أميركا في حربها على أفغانستان، كان للقوى الإقليمية (دول جوار أفغانستان) دور رئيسيّ في هذه الأزمة، وأهمّها تلك المحيطة مباشرة بمسرحها، أي الهند وباكستان، تليها دول آسيا الوسطى، ثمّ الصين وروسيا بصفتها قوى فاعلة، وأخيراً إيران التي كان لها مصلحة في توريط أميركا في أيّ وحلٍ يمكن أن تغرق فيه.
لا ترغب الصين والهند وإيران وروسيا في رؤية إمارة تابعة لـ«طالبان»

بصفتها الداعم الرئيسيّ لنظام «طالبان» في أثناء فترة حكمه في التسعينيات، يُعدُّ نفوذ إسلام أباد على الحركة أساسياً في التوصّل إلى تسوية سياسية مع حكومة كابول، من طريق الضغط على حلفائها لمواصلة الانخراط في المحادثات المعلّقة إلى «حين انسحاب جميع القوات الأجنبية» من البلاد. إذ لا تبدو باكستان في وضع اقتصادي يسمح لها، مثلاً، بتحمُّل موجة لجوء أخرى، فيما لو أحكمت «طالبان» سيطرتها على أفغانستان. ويرى مراقبون أن الهند التي تجمّدت علاقاتها مع جارتها الباكستانية منذ أن قرّر رئيس وزرائها، ناريندا مودي، إلغاء الحكم الذاتي في كشمير الهندية، تُعدّ مساهماً رئيسيّاً في إعادة إعمار أفغانستان، كون الاحتياطي الأجنبي فيها يزيد على 400 مليار دولار، فيما يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. وتأتي الصين في مقدِّم الدول الساعية إلى أداء دور مهمّ في أفغانستان، بعدما باتت من الأطراف الرئيسيّة، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، على طاولة التسوية النهائية. وتمثِّل أفغانستان أهميّة استراتيجية في سبيل إكمال مشروع الصين «حزام واحد طريق واحد». كما تُعدُّ كابول مهمّة بالنسبة إلى بكين بالنظر إلى أن الصين تُعدّ ثاني دولة بعد روسيا الاتحادية من حيث عدد الدول المجاورة لها، حيث تتشارك حدودها البرّية مع 14 دولة، والبحرية مع 5 دول على الأقلّ. ومن بين دول الجوار، فإن أفغانستان وباكستان وحدهما لا تشهدان نزاعاً مع الصين على الحدود الجغرافية، ولم تدخلا في أيّ صراع عسكري معها في الماضي. ونتيجة لذلك، تسعى بكين إلى خلق محور من الدول الصديقة يضمّ باكستان وأفغانستان وطاجيكستان، بهدف الحدّ من توتّراتها مع دول الجوار الأخرى، وتعزيز حدودها غربي آسيا. وقبل انخراطها بصورة فاعلة في الملفّ الأفغاني، واستضافتها أكثر من مرّة وفوداً من حركة «طالبان»، وصولاً، أخيراً، إلى عقدها مؤتمراً للسلام جمَع الأطراف الأفغان إلى طاولة التفاوض، ظلّت روسيا حيادية على نحو معقول، على رغم مشاهدتها لخصمها الرئيسيّ ــــ الولايات المتحدة ــــ وهو يسيطر على أفغانستان.
انتقالاً إلى إيران التي كان نظام «طالبان» يشكّل في السابق تحدّياً رئيسيّاً لها على حدودها الشرقية (تتشارك حدوداً يبلغ طولها نحو 965 كيلومتراً مع أفغانستان)، فهي أعدّت نفسها بالفعل لأفغانستان ما بعد الولايات المتحدة، إذ تشير الاتصالات والاجتماعات الأخيرة بين ممثّلي «طالبان» والمسؤولين الإيرانيين إلى أن طهران اعترفت بالفعل بالجماعة باعتبارها جهة فاعلة لا يمكن إنكارها. ففي النهاية، لن يقرّر الأفغان والأميركيون مسار الحرب. فلدى كلّ من الصين والهند وإيران وروسيا مصالح في هذا البلد، حيث لا ترغب في رؤية إمارة تابعة لـ»طالبان»، ولا سيما أن طهران وموسكو تتمتّعان بعلاقات ممتدّة مع الهزارة والطاجيك والأوزبك الذين يعارضون الحركة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا