لندن | توارى جون ماغوفولي، رئيس تنزانيا - شرق أفريقيا -، عن الأنظار، ولم يظهر إلى العلن لعدة أسابيع، وتواتَرت التكهُّنات بشأن مصيره، إلى أن أعلنت سامية سولوهو حسن، نائبته، صباح الجمعة الماضي (19 آذار/ مارس) نبأ وفاته - عن 61 عاماً -، وأدّت اليمين الدستورية رسمياً خَلَفاً له. وفي خطاب تنصيبها، دعت حسن التنزانيين جميعاً إلى «التلاقي والتوحُّد»، وحذرت من أن «الوقت ليس مناسباً لإلقاء الاتهامات». ويشير هذا التحذير إلى ارتياب صار علنياً الآن في طبيعة هذا الانتقال الغامض للسلطة، والتحدّيات التي ستواجهها في ملء مكان رئيسٍ حظي دائماً بشعبية كبيرة. وما زال الذهول مسيطراً على الأوساط الشعبية في البلاد، بينما يقول مختصّون في الشؤون الأفريقية إنهم لا يستبعدون إطلاقاً حدوث انقلاب سرّي تمّ تنفيذه من قِبَل مراكز قوى ضمن النخبة الحاكمة - وبالتنسيق مع أجهزة استخبارات غربية - بغرض التخلُّص من ماغوفولي المثير للجدل.حسن، التي أتمّت دراستها الجامعية في المملكة المتّحدة - المستعمِرة السابقة لتنزانيا -، لقيت ترحيباً حماسياً من الصحف الغربية، ولا سيما البريطانية، التي وصفتها بالرئيسة «التوافُقية»، وهي صفة تطلقها تلك الصحافة عادة على الزعماء الطيّعين للغرب. كما احتفلت بها المنظّمات غير الحكومية الغربية بوصفها أوّل سيّدة تتولّى المنصب التنفيذي الأعلى في تنزانيا التي تَوقّعت «هيومن رايتس ووتش» أن تشهد تحت قيادة حسن «إحياءً للديموقراطية». ونقلت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية عن مستشارين عارفين بشؤون المنطقة توقُّعهم أن تشرع الرئيسة الجديدة في تحوُّل علني سريع عن سياسة سلفها المُتمثّلة في مواقفه السلبية من المستثمرين الأجانب، كما اعتباره وباء «كوفيد - 19» مجرّد خدعة غربية، وامتناعه عن شراء اللقاحات. وقد ظهرت حسن، بالفعل، وهي ترتدي كمامة واقية، للمرّة الأولى منذ انتشار الوباء في العالم، وذلك بعد يومين فقط من تولّيها منصب الرئاسة. واعتبر المراقبون تلك البادرة إشارة رمزية، لكن حاسمة، إلى توجُّهات الرئيسة الانقلابية، أقلّه في ما يتعلّق بمسألة الوباء.
وكان الرئيس الراحل تعرّض، منذ إعادة انتخابه العام الماضي، لحملة سلبية شعواء من قِبَل الإعلام الغربي. واستغلّ كثيرون منزعجون من سياساته الوطنية المعادية لرأس المال الغربي، الوباء، لتصفية الحسابات السياسية معه، إذ وُصف بأنه «عدوّ العلم»، وسياساته بـ»الشعبويّة». ولدى غيابه الأخير، اتُّهم بأنه أصيب بـ»كوفيد - 19» ونُقل للعلاج في الهند أو كينيا، بينما يعرّض حياة مواطنيه للخطر. وفي الحقيقة، فإن التغطية السلبية للرئيس ماغوفولي لم تبدأ إلّا بعدما سقط من دائرة الرضى الأميركي في السنتين الأخيرتين من فترته الرئاسية الأولى (2015 – 2020)، بل وكانت الصحف الغربية ومراكز الأبحاث المشبوهة قد رحّبت به بحرارة لدى تسلُّمه الرئاسة في 2015، واعتبرته بذكائه وتقدُّميته ونزاهته وسياساته الإصلاحية المعلَنة «نموذجاً يحتذى» ينبغي للدول الأفريقية الأخرى التّعلم منه.
وقد كان أوّل قراراته، إثر فوزه بالمنصب حينئذ، تخفيض رواتب كبار موظّفي الحكومة - بما في ذلك راتبه الشخصيّ - من أجل زيادة التمويل للمستشفيات وتوفير أدوية «الإيدز». وبقيت الرعاية الصحية دائماً واحدة من أهمّ أولويات إدارته. ولاحقاً، ألغى الاحتفالات الكرنفالية بعيد الاستقلال، واستخدم الأموال التي وُفّرت من جرّاء ذلك لإطلاق حملة لمكافحة وباء «الكوليرا». وارتفع متوسّط العمر المتوقَّع، سنوياً، أثناء تولّيه منصبه، وهو أمر لافت في بلد تفشّت فيه أوبئة كثيرة. كما قاد حملة استثمارية ضخمة لرفع سويّة البنية التحتية المتردّية، وأعلن عن خطط لتأميم صناعة التعدين المهمّة التي قال إنها «ضرورية لضمان حصول الأمة على فائدة أكبر من مواردها الطبيعية». ويبدو أن الرجل مضى في تنفيذ تلك الإصلاحات إلى درجة مسّت بالمصالح الغربية، على نحو استدعى تقريعاً من إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لكنه في المقابل أكسبه محليّاً تأييداً شعبياً جارفاً. ونُقل عن مايك بومبيو، خلال أيّامه الأخيرة وزيراً لخارجية الولايات المتحدة، وصْفه الرئيس ماغوفولي «بالكاذب والغشّاش الذي سرقنا»، وذلك في معرض فرْض الولايات المتحدة عقوبات على مسؤولي الحكومة التنزانية بسبب «مخالفات انتخابية» مزعومة.
وكان أعيد انتخاب الرئيس ماغوفولي، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لفترة رئاسية جديدة، لتَظهر سريعاً الاتهامات الغربية التقليدية بـ»قمع الناخبين» و»التزوير الانتخابي»، على رغم أن الصحافة الغربية أعلنت في وقت سابق أن نسبة تأييده وفق استطلاعاتها بلغت 96٪. وقد تصاعدت الحملة ضدّه منذ بداية العام الحالي بشكل ملحوظ. وعنونت «ذي غارديان»، المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بدوائر الاستخبارات الغربية الشهر الماضي:» لقد حان الوقت لتكبح أفريقيا جماح رئيس تنزانيا المناهض للقاحات». وقبل أسبوعين من تواريه الغامض عن الأنظار، نشرت الصحيفة نفسها في قسمها المُخصَّص للتنمية الدولية - يَصدر برعاية مؤسسة بيل وميليندا غيتس - مقالاً يدعو الغرب «إلى القيام بشيء ما بشأن الرئيس ماغوفولي». وبعد اختفائه، نشر مجلس العلاقات الخارجية الأميركي على موقعه مقالاً يقترح فيه أن «اللحظة مناسبة لشخصية جريئة من داخل الحزب الحاكم كي تستفيد من الفراغ الحالي في السلطة والبدء بتغيير الاتجاه».
تُشيع مصادر في الحزب الحاكم في دودوما أن السبب الرسمي لوفاة ماغوفولي هو أزمة قلبية


وإلى جانب عداء الغرب لسياساته الاقتصادية، فإن ماغوفولي يعدّ أحد الرؤساء القلائل الذين رفضوا الحكاية السائدة حول «كوفيد - 19»، وثاني رئيس أفريقي يتعرّض لموت غامض إثر تشكيكه في فعّالية الاختبارات وسلامة اللقاحات، ورفضه السماح باستخدامها في بلاده. وكان بيير نكورونزيزا، رئيس بوروندي السابق، رفض بدوره الدخول على خطّ «كوفيد - 19»، وأصدر تعليماته لمُمثّلي «منظّمة الصحّة العالمية» بمغادرة بلاده قبل أن تُعلَن وفاته، ويتمّ تنصيب خَلَف له كان أوّل إجراءاته استدعاء ممثلي المنظّمة مجدّداً إلى البلاد. وكان مكتب ماغوفولي قد أرسل بخمس عيّنات مُغفلة (من دون أسماء) للكشف عن إصابة أصحابها بـ»كوفيد - 19»، لتُظهر نتائج التحليل إصابات مؤكدة في أربع عيّنات، مع عينة واحدة لم يكن ممكناً الجزم بوضعها. لكن المكتب كشف، لاحقاً، أن العيّنات كانت غير بشريّة (لماعز وعبّوة زيت محرّكات وطائر السمان وثمرة الجاك فروت والبابايا). وأصدر الرئيس إثرها أمراً بحظر اختبارات «كوفيد - 19»، ودعا إلى التحقُّق من طريقة تصنيعها.
وتُشيع مصادر في الحزب الحاكم، في دودوما (العاصمة)، أن السبب الرسمي لوفاة ماغوفولي هو أزمة قلبية، على عكس التقارير الغربية (مجلة الإيكونوميست البريطانيّة مثلاً) التي تزعم أنه قد يكون قضى بمضاعفات «كوفيد - 19». وبغضّ النظر عن سبب الوفاة الحقيقي، فمن الواضح أن لا مكان بعد لرؤساء وطنيين مستقلّين في القارّة السمراء المظلومة، وأن تأميم موارد القارّة الطبيعية مشروع انتحار محتّم لكلّ زعيم أفريقي من لومومبا إلى سانكارا، ومن ناصر إلى ماغوفولي.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا