ثمة «خطوطٌ حمر» أبلغت الإدارة الأميركيّة طهران وحلفاءها رفضها القاطع في تجاوزها؛ وهي ــــ وفق العارفين ــــ حدود قواعد الاشتباك المعمول بها حتى فجر 3 كانون الثاني/ يناير 2020. حركة الدولار الأميركي، خارج حدود/ إرادة أي دورة اقتصاديّة ترسمها واشنطن، هي أوّل الخطوط الحمر. «أرواح الجنود الأميركيين»، والمنتشرين على طول ساحات المواجهة مع أعدائها هي الخطّ الثاني؛ أما السفارات وأمنها فتعدّ «الخطّ الثالث». باختصار، تخشى الإدارة الأميركيّة الظهور بصورة العاجز عن حماية مصالحها، وهي الدولة «المهابة». تخشى أيضاً تكرار سيناريوات «تهشيم صورتها»، كما جرى في طهران عام 1980، وفي بيروت عام 1982، وبنغازي (ليبيا) عام 2013.
منذ عام 1998، ومع تولّي اللواء الشهيد قاسم سليماني قيادة «قوة القدس» في «الحرس الثوري»، تعاظم الدور الإيراني وحضوره في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ ساهم في تعزيز قوّة حلفاء طهران وإمكاناتهم، على طول الجغرافيا المشكّلة لجبهة المواجهة مع المعسكر الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ الخليجي. خلال السنوات الأخيرة، نقل سليماني موقع محور المقاومة من موقعٍ متنفّذ إلى موقعٍ مُهاب، ومحطّمٍ للصورة الأميركيّة.
السنوات الأخيرة من عمر الرجل شهدت إنجازاتٍ كبيرة: من اليمن إلى فلسطين المحتلة إلى العراق، مروراً بلبنان وسوريا. «ضربة أرامكو»، وكسر الحدود الجغرافيّة بين دول محور المقاومة، والقضاء نهائيّاً على تنظيم «داعش»، صمود الدولة السورية ورئيسها بشار الأسد، وتطوير القدرات الصاروخيّة (الصواريخ الدقيقة) للمقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، شواهد حيّة على ذلك. لم تستطع واشنطن ــــ رغم اشتعال المنطقة وانشغالها بالحروب والمواجهات ــــ إيقاف برامج الشهيد ومشاريعه. ما قيل عن «هيبة» المعسكر الأميركي تحطّم على يديه؛ ومع نهاية عام 2019، بدأت واشنطن بالبحث سريعاً عن إنجازٍ سريعٍ يُعيد ترميم صورتها «المُهابة».

استدراجٌ أم انفعال؟
لم يكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحده من فكّر باغتيال سليماني. سلفه باراك أوباما فكّر جديّاً بذلك، قبل أن يتراجع عن قراره. الإدارة الحاليّة كادت أن تشعل المنطقة بحربٍ لا أفق لها، بُعيد قرارها في تلك الليلة من العام الماضي. لكن تبقى حزمة من الأسئلة تفتقر إلى إجاباتٍ مقنعة، أبرزها: هل جهّزت واشنطن، ودبّرت، مسرح الجريمة؟ أم استفادت من خطأ «قاتل»، كان بمثابة «الذريعة المباشرة»؟
دائماً، ثمة «أسباب مباشرة» وأخرى غير مباشرة؛ حساب سليماني في السنوات الأخيرة كَبُر كثيراً في واشنطن. لم يعد الرجل معزّزاً لنفوذ بلاده في غرب قارة آسيا فحسب، بل محطّماً «الغرور» الأميركي، وبانياً لـ«هيبة» إيران وحلفائها، وهذا ما دفع الجميع إلى الحديث/ الإعجاب بدوره وشخصه، وقدرته على استيعاب الأزمات وتحويلها إلى مكتسبات/ تحوّلاتٍ كبرى تصبّ في مصلحته.
ظنّت واشنطن بخطوتها المجنونة أنها استرجعت هيبتها المفقودة


في الـ 27 من كانون الأوّل/ ديسمبر 2019، سقط متعاقدٌ مدني مع قوات الاحتلال الأميركي، في قاعدة «كي 1»، في كركوك. حتى الساعة، لم يُكشف عن ملابسات الحادثة، ولا عن الجهة التي نفّذت هذا الهجوم؛ القتيل لم تكشف هويته إلا بعد أيام. اللافت، أنّه طوال الأسابيع التي سبقت «حادثة كركوك»، حرصت الإدارة الأميركيّة على الترويج لنقطتين أساسيتين:
1- تهيئة المناخات السياسيّة، وتقّبل «حق» واشنطن في الرد على أي استهدافٍ لمصالحها أو خسارة جنودها (في العراق تحديداً)، وتحميل طهران المسؤولية المباشرة في ذلك.
2- إدراج مؤسسة «الحرس» على قوائم الإرهاب والعقوبات، وهذا ما يسهّل على الرئيس الأميركي استهدافها وشخصيّاتٍ قياديّةٍ فيها، بقرارٍ مباشر وسريع منه.
هذه العملية تطرح أسئلةً عدّة، أبرزها: من نفذها؟ ثمة من يجيب أنها من تنفيذ فصائل المقاومة العراقية. أما الأمين العام لـ«حركة عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، فحمّل «داعش» مسؤولية العملية. رفضت الفصائل الاتهام الأميركي. بدورها، سارعت واشنطن إلى الرد، لحفظ صورتها والتأكيد على مواقفها السابقة. حمّلت المسؤولية ــــ حصراً ــــ لفصائل «الحشد». استهدفت بغارةٍ جويّة عدداً من المقار في منطقة القائم، عند الحدود العراقيّة ــــ السوريّة. أكثر من 25 شهيداً وعشرات الجرحى. السؤال، هنا، لماذا القائم؟ ولماذا لم يكن الرد في كركوك (مثلاً)؟ لم يكن الردّ الأميركي متكافئاً. أرادت واشنطن في ذلك أمرين: تأديب طهران وحلفائها، وإعادة بناء صورتها المهشّمة.
الرد العراقي جاء مباشرةً بعد تشييع الشهداء. تظاهرات أمام السفارة الأميركيّة في بغداد، أكبر سفارةٍ أميركيّةٍ في العالم. حاول البعض اقتحامها. أحد الوجوه البارزة في محور المقاومة، ولحظة بدء الاقتحام، قال «سندفع ثمناً كبيراً». حتى اللحظة، تُطرح الأسئلة الآتية: من اقتحم؟ هل ثمة قرارٌ بذلك؟ هل ردّة الفعل تحكّمت بالموقف، أم هو خرق في صفوف المتظاهرين، وثمة من تبعه في ذلك؟
أسئلةٌ تفتقر إلى إجاباتٍ مقنعة. الأكيد أن نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» الشهيد أبو مهدي المهندس، سارع إلى الطلب من المتظاهرين الخروج من «المنطقة الخضراء». رئيس «الهيئة» فالح الفياض، طالب بذلك أيضاً. رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، يومها كان رئيساً لجهاز المخابرات، سارع إلى تحذير رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، من تداعيات ما يجري. سريعاً، عملت القوّات الأمنيّة على ضبط الساحة.

(أ ف ب )

صحيحٌ أن المتظاهرين لم يقتحموا مبنى السفارة، فهم لم يتجاوزوا سورها إلا أمتاراً معدودة، لكنّه ــــ بالعرف الأميركي ــــ عُدّ تجاوزاً لقاعدة الاشتباك الأولى، وتحطيماً لصورة أقوى القلاع الدبلوماسيّة والاستخبارية الأميركيّة في العالم. ضجّت وسائل الإعلام العالميّة بما جرى. أُبلغ الجانب العراقي بأن الحادثة لا يمكن السكوت عنها.
عودةٌ إلى «الخطوط الحمر». الإدارة الأميركيّة ــــ وفي سياق إعادة ترميم صورتها ــــ سارعت إلى الرد، وكان أيضاً «غير متكافئ». اتخذت قرارها بقتل سليماني في مطار بغداد الدولي، علماً بأنّ الرجل كان في مهمةٍ دبلوماسيّة وعلى موعدٍ مع عبد المهدي، صبيحة اليوم التالي. استقبل المهندس رفيق سلاحه. وما هي إلا دقائق (6 دقائق) بين وصوله إلى العراق واستشهاده. أرادت واشنطن بذلك استعادة هيبتها، وإزاحة أكبر «العوائق» أمام مشاريعها في المنطقة.

ضياع البوصلة
بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى افتقاد محور المقاومة أقوى نقاط قوّته. ظنّت واشنطن بخطوتها تلك استرجاع هيبةٍ مفقودة. الرد الإيراني كان باستهداف القاعدة الأميركيّة في «قاعدة عين الأسد الجويّة» (غرب العراق)، حيث انطلقت الطائرات المسيّرة التي استهدفت الشهيدين. كان للرّد الأثر البالغ والدلالة الكافية على أن طهران على استعداد للذهاب بعيداً في مواجهة قوات الاحتلال الأميركي.
الثابت ــــ حتى الآن ــــ أن ثمة ضياعاً موازياً لما جرى، وتحديداً في الساحة العراقيّة، ميدانيّاً وسياسيّاً. مثلاً، البعض من حلفاء طهران، اتهم الكاظمي محمّلاً إيّاه مسؤولية المشاركة في الجريمة، ومن ثم المضيّ به رئيساً للوزراء. أما الردّ العراقي، فقد عبّر الخزعلي، قبل يومين، عن كونه تأخر، وعن ندمه لذلك. بوصلة القوى العراقية المسؤولة عن الرد ضاعت. بدا ذلك جليّاً، إضافةً إلى فقدان حلفاء طهران توازنهم السياسي، وبروز حاجة إلى الإسراع في ملء فراغ الشهيدين. خسارة المهندس ــــ عراقيّاً ــــ كانت الأقسى؛ في طهران، بشكلٍ أو بآخر، تعويض خسارة سليماني؛ لكن في العراق ثمة صعوبة كبرى في إيجاد من يحظى بقبول «الجميع»، ويستطيع أن يضبط التذبذب والضياع على صعيدَي الفصائل أوّلاً، و«الحشد» ثانياً.
عبّر الخزعلي، قبل يومين، عن ندمه لتأخّر الرد على الجريمة الأميركية


عن التحقيقات
كان لافتاً جدّاً، وفي انعكاسٍ لحجم الضياع، اتهام البعض للكاظمي وجهاز المخابرات بالمشاركة في الجريمة الأميركية. اللافت أيضاً، أن هذا الفريق عاد وجلس معه بمبادرة رعاها المعنيّون في بيروت وطهران. في التحقيقات الرسمية (تنشر «الأخبار» أبرز نقاطها على الموقع الإلكتروني)، ثمة إشارات واضحة إلى غياب أي عاملٍ بشري مساند، في وقتٍ تصرّ فيه «هيئة الحشد» على الدخول السريع لبعض المنتسبين لجهاز المخابرات إلى ساحة الجريمة. إضافةً إلى ذلك، فإن الطائرات المسيّرة التي دخلت أجواء المطار كانت بموافقة قيادة «العمليات المشتركة» في حينها، حيث كان عبد الأمير يار الله نائباً للقائد (الرئيس الحالي لأركان الجيش) وبقيادة عبد المهدي.
في التحقيقات أيضاً، ثمة إشارة إلى أن المصادر الفنية والتقنيات لا تستوجب أن يكون هناك مصدرٌ بشري، وخاصة أن الشهيد كان قادماً إلى العراق، وأن المصدر البشري قد يكون في لبنان أو سوريا. وما يعزّز هذه الفرضيّة، وفق مصادر بارزة ومطّلعة على سير التحقيقات، أن «الوفد العراقي الذي توجّه إلى سوريا لهذا الغرض لم يستطع الدخول، وبقي في لبنان لمدة أربعة أيام، ولم يحصل على الموافقة من الجانب السوري». إضافةً إلى ذلك، ثمة من يقول إن «أجنحةً في المخابرات (العراقية) محسوبة على اطلاعات (وزارة الأمن والاستخبارات الإيرانيّة)، وهذا ما يكسر الثقة التامة بين الأميركيّين وهذا الجهاز العراقي».
لقد كان عاماً قاسياً. تبادل فيه الجميع الاتهامات. أخفق الجميع في لملمة شتات المشهد العراقي. ثمة ضياعٌ لا يمكن ضبطه، وصورةٌ لا يمكن جمع أجزائها. الأكيد، أن فراغ سليماني ــــ المهندس، في الساحة العراقيّة، لا يمكن ملؤه، لا في السياسة ولا في الميدان.