لا يتمثل ربح إيران معركة الناقلات مع بريطانيا في النقاط، فحسب. الأهم من خلف المشهد، نجاح طهران في الالتفاف على المساعي الأميركية لتكبيل يدها عن تثبيت معادلات الردع. فالمطلوب أميركياً أن تسير العقوبات على إيران بلا كثير ضجيج، وأن يختنق الإيرانيون من دون أن تكون لديهم أوراق قوة تقسّم أثمان المعركة بين الجميع، لا على طهران وحدها. وأهم هذه الأوراق، فضلاً عن ورقة الحلفاء في الإقليم وخطوط الالتفاف على العقوبات النفطية، ورقة مضيق هرمز والخليج وبحر عمان، حيث الممرات المائية الاستراتيجية التي إن اهتز أمنها انعكس على أمن حلفاء واشنطن وعلى أسعار النفط والحضور الغربي العسكري في الإقليم. أمس، مع انتهاء معركة الناقلات إلى خيبة أميركية، تكون طهران قد أفشلت محاولة واشنطن الابتزاز والمقايضة بين حرية إيران التجارية والملاحية وأمن الخليج ومضيق هرمز. الإيرانيون، المتمسّكون في هذه المرحلة باستراتيجية «المقاومة الفاعلة» كما يسمّونها، ذات السقف المرتفع، يهدفون إلى تلافي أي مظهر للضعف قد يشكّل ممراً للحملة الأميركية، ما يستدعي تثبيت التعاطي بندية وحزم. من هنا، بدا الارتياح في طهران أمس كبيراً جداً جراء نجاح الرهان الإيراني على الاستراتيجية الجديدة وتمتين الموقف بوجه الهجوم الأميركي، وما سمّاه المتحدث باسم الحكومة علي ربيعي «نصراً» تحقّق بلا تنازلات.على المقلب الأميركي، تسهم نتائج جولة الناقلات في انكشاف أكبر للحملة على إيران، لجهة ضيق الخيارات أمامها، وكذلك وجود صعوبة في إقناع حلفاء واشنطن الغربيين بالانضمام إلى التحالف الأمني المتعثّر لـ«حفظ أمن الملاحة» قبالة إيران واليمن. وبدا الانزعاج في واشنطن واضحاً، حيث لم تجد الحكومة الأميركية أمامها سوى التهديد بالرد عبر حظر منح تأشيرات أميركية لطاقم «غرايس 1»، خصوصاً أن الولايات المتحدة ضغطت حتى الساعات الأخيرة لتمديد احتجاز الناقلة من دون نتيجة بواسطة طلب تقدمت به لسلطات جبل طارق حيث تُحتجز الناقلة منذ الرابع من تموز/ يوليو. واتهمت المتحدثة باسم الخارجية الاميركية، مورغان أورتاغوس، أمس، الناقلة بتقديم المساعدة للحرس الثوري الإيراني، قائلة: «أفراد طواقم السفن التي تساعد الحرس الثوري الإيراني عبر نقل النفط من إيران قد يكونون غير مؤهلين للحصول على تأشيرات أميركية، أو قد يُرفض دخولهم إلى الولايات المتحدة لأسباب تتعلّق بالإرهاب». أمام ما تقدّم، يظهر أن الحكومة الجديدة في لندن بزعامة بوريس جونسون تميل إلى عدم التورّط مع الأميركيين والتعرّض للصفعات الإيرانية التي يمكن أن تزيد مع طول أمد الأزمة، بل إعادة تفعيل المسار الدبلوماسي للحفاظ على الاتفاق النووي، وهو ما سيتضح أكثر في الأيام المقبلة.
بالعودة إلى تفاصيل الإفراج عن «غرايس 1»، كانت المعلومات حتى ليل أمس تشير إلى أن الناقلة العملاقة في طريقها إلى المغادرة نحو وجهتها غير المعلنة في البحر المتوسط، لا العودة إلى إيران. وغُيِّر اسم السفينة وعلَمها، وفق نائب مدير مؤسسة الموانئ والملاحة البحرية في إيران، جليل إسلامي، الذي قال إنه «بناءً على طلب المالك، ستغادر غرايس 1 البحر المتوسط بعد أن ترفع علم جمهورية إيران الإسلامية (بدلاً من علم بنما) وتعاد تسميتها أدريان داريا خلال الرحلة». وقال رئيس وزراء جبل طارق، فابيان بيكاردو: «بوسعها المغادرة بمجرد ترتيب الأمور اللوجيستية اللازمة لإبحار سفينة بهذا الحجم إلى وجهتها المقبلة... يمكن أن يكون ذلك اليوم (الجمعة) ويمكن أن يكون غداً (اليوم)».
من المتوقّع ألّا يتأخّر الإفراج عن ناقلة «ستينا إمبيرو» البريطانية

وأشار إلى تلقيه وعداً مكتوباً من طهران بعدم إرسال الشحنة (حجمها 2.1 مليون برميل) إلى سوريا، قائلاً: «لقد حرمنا نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد 140 مليون دولار من النفط الخام». الأمر نفسه أكده رئيس قضاة جبل طارق، أنطوني دادلي، بأن قرار الإفراج عن الناقلة جاء بعد تأكيدات مكتوبة من إيران بأن الناقلة لن تتجه إلى بلدان «خاضعة لعقوبات من الاتحاد الأوروبي».
لكن طهران نفت بنحو قاطع تقديم ضمانات لسلطات جبل طارق بهدف الإفراج عن الناقلة. وأكد المتحدث باسم الخارجية، عباس موسوي، أن «وجهة الناقلة لم تكن سوريا... وحتى إن كانت تلك وجهتها، فإن المسألة لا تعني أحداً آخر»، فيما رأى المتحدث باسم الحكومة أن «هذا النصر من دون تقديم أي ضمانة هو نتيجة دبلوماسية قوية وإرادة قوية للكفاح من أجل حقوق أمة». هذه المواقف عادت وردّت عليها حكومة جبل طارق التابعة لبريطانيا عبر متحدث باسمها قال إن «الموقف المكتوب... يؤكد أن الجمهورية الإسلامية في إيران قطعت هذا التعهد... الوقائع أقوى من التصريحات السياسية التي نسمعها اليوم»، مضيفاً أن «الأدلة التي رُصدت على متن غرايس 1 تؤكد أن السفينة كانت متوجهة إلى سوريا».
من جهته، ركز وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، على انكسار الموقف الأميركي، مشيراً إلى أن محاولة «القرصنة» الأميركية باءت بالفشل، وأن ذلك يظهر «ازدراء إدارة ترامب للقانون». في الأثناء، تتجه الأنظار إلى طهران حيث من المتوقّع ألّا يتأخّر الإفراج عن ناقلة «ستينا إمبيرو» البريطانية، التي احتجزها الحرس الثوري قرب مضيق هرمز، رداً على احتجاز «غريس 1».