أن يتآلف «الحريديم» مع أقرانهم اليهود شيء، وأن يقرّوا لهم برموز مستجدة على خلفية إنشاء الدولة الإسرائيلية، المعتدية على الشريعة والحق الإلهي، شيء آخر. فالرب وحده، عبر حكماء التوراة، يحدّد الأعياد اليهودية كما مناسبات الحزن، والتي هي خارجة عن الإرادة الإنسانية، مهما بلغت. هذه الفلسفة، يعتمدها «الحريديم»، وتحديداً أولئك الذين يسعون إلى تبرير موقفهم شديد التطرف من مناسبات الدولة الإسرائيلية، والذي يدفع بعضهم إلى إحراق العلم الإسرائيلي في ما يُسمى «يوم الاستقلال»، بينما يضع آخرون أعلاماً سوداء منكّسة على شرفات منازلهم، للإشارة إلى هذا اليوم الحزين، في ذكرى إعلان الدولة اليهودية عام 1948.والإسرائيليون على موعد سنوي، في 15 أيار/ مايو من كل عام، مع مشاهد تُبثّ في الإعلام العبري عن حرق الأعلام الإسرائيلية، بعد أن يتحلّق من حولها «الحريديم» بثيابهم السود، للاحتفال بفعاليات الحرق التي تؤكد، ليس فقط التمايز عن الإسرائيليين الآخرين، بل الرفض لرمز هذه الدولة ووجودها، في ظاهرة ليست استثنائية أو شاذة، بل باتت جزءاً لا يتجزأ من المشهد الإسرائيلي العام في «ذكرى الاستقلال». ويضاف إلى حرق العلم الإسرائيلي، حرق دمى تحاكي جنوداً إسرائيليين بالبزة العسكرية، في دلالة على رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بما هي انتظام عسكري يحمي الكيان الذي يتيح لليهود خرق تعاليم التوراة وأحكام الحاخامات، وتحديداً في ما يتعلق بحرمة التمرد على الأغيار وإقامة الدولة اليهودية قبل ظهور المسيح المخلص، إذ «في الأساس، ما معنى أن يكون هناك مخلّص، إن جاء الخلاص بأيدٍ إنسانية؟». هنا، قد يتبادر إلى الذهن أن حارقي العلم الإسرائيلي هم من جماعة «ناتوري كارتا»، التي تُعدّ واحدة من أكثر الجماعات «الحريدية» تعبيراً عن رفض الصهيونية والدولة الإسرائيلية، لكن مشهد الحرق في الأحياء «الحريدية» يشارك فيه محتفلون من جماعات «حريدية» مختلفة، ولذا فهو لا يعكس مجرد رأي جماعة تشذّ عن الإجماع العام في القطاع «الحريدي».
يمتنع «الحريديم» عن الوقوف صمتاً في ذكرى قتلى اليهود في المحرقة النازية


في مظاهر أخرى رافضة، يمتنع «الحريديم» عن الوقوف صمتاً في ذكرى قتلى اليهود في المحرقة النازية. وبدلاً من الانصياع لإطلاق صافرات الإنذار، والتوقف عن الحراك الذي يكون جامعاً لليهود الآخرين، يتعمد «الحريديم» الامتناع عن الصمت والتوقف العام المُحدّد بدقيقتين، سواء في الشارع أو داخل الأبنية، ويواصلون مسيرهم واهتماماتهم، وكأن الصافرات لم تُطلق. ورفض «الحريديم» المشاركة في طقوس تقدير قتلى «الهولوكوست»، لا يعني أنهم لا يقرّون بحصولها، لكنّ لديهم أسباباً تمنعهم من المشاركة على خلفيات متعددة، ومن بينها رفض عادات الوثنيين وتقاليدهم، كما يرد على لسان أحد الحاخامات. الحاخام دافيد، الذي رفض نشر اسمه كاملاً خوفاً من ردات الفعل «الحريدية» على كلامه (ولإخفاء هويته في ذاته دلالات)، قال لصحيفة «يديعوت أحرونوت» (16/04/2018) إنه سيقف هذا العام عندما يسمع صافرات الإنذار. ويشرح دافيد، وهو حاخام معروف من الطائفة «الحسيدية» في مدينة بني براك، أنه «ليس كل الحريديم لا يهتمون بيوم الذكرى، فهناك طرق وتيارات مختلفة. أنا متأكد من أن الحاخام الأكبر لإسرائيل والحاخامات الأكبر يقفون مع صافرات الإنذار، مثلما يفعل أعضاء الكنيست وجميع الحريديم الذين يشغلون مناصب عامة ملزمة». مع ذلك، يضيف إن واحداً من أسباب الامتناع هو التصور بأن صافرات الإنذار نفسها هي عادة وثنية، وهذا هو السبب في «أننا أُمرنا بعدم المشاركة»؛ لأنه وفقاً للقانون اليهودي «يجب على اليهود عدم تبني العادات والاحتفالات الناشئة عن الثقافة الأجنبية». لكن هل هذا هو السبب الفعلي؟ أم أن المسألة برمتها مبنية على الموقف من الصهيونية والدولة الوليدة منها؟
في مقابلة أجرتها معه «القناة العاشرة» العبرية (26/04/2012)، يأسف الحاخام يتسحاق غباي لهذه الدولة التي تحمل اسم إسرائيل ولا تتقيّد بالتوراة. يقول: «وفقاً لرأينا، هذه الدولة لا تتصرف بطريقة يهودية، ولا تلتزم بالتوراة في النظام القانوني والتعليم وما إلى ذلك. لا نرى سلوكاً يهودياً كما يُتوقع من دولة تحمل اسم إسرائيل». ويضيف: «في هذا الواقع، تكمن المأساة، لأن لا مراعاة التوراة في الأرض المقدسة، ومن قِبَل اليهود أنفسهم، هو إثبات لأحقية المسيح المخلص، ومدى حزنه ومعاناته». ويتابع إن «الخلاص يكون على يد المسيح المخلص حيث انتماؤنا الحقيقي. نعم حدثت عودة يهودية إلى الأرض المقدسة، لكن يبدو أننا لم نفز بالمسيح بعد، ولن نرى مجيئه، ولن نبني الهيكل على يديه».
وفق نتائج استطلاع رأي صدر في نيسان/ أبريل من العام الماضي عن «معهد إسرائيل للديموقراطية»، يرى حوالى ثلث «الحريديّين» في إسرائيل (36%) أن ذكرى محرقة اليهود على يد النازية هي يوم حداد بالنسبة إليهم. لكن النتيجة تبيّن وجود اختلافات كبيرة بين «السفارديم» (الشرقيين) والأشكناز (الغربيين)، إذ إن ما يقارب ربع «الأشكناز» فقط (26 بالمئة) يعدّون ذكرى المحرقة يوم حداد، مقارنةً بما يصل إلى النصف لدى «السفارديم» (48.5 بالمئة). أما في ما يتعلق بـ«يوم الاستقلال» (النكبة عام 1948)، فيرى 12 بالمئة فقط من «الأشكناز» أن «الاستقلال» مدعاة فرح وموجب عطلة، مقارنة بـ 30 بالمئة من «السفارديم»، علماً بأن نسبة «الأشكناز» من القطاع «الحريدي» تصل إلى 70 بالمئة، مقابل 30 بالمئة للشرقيين.