سعياً لتفادي «حروب غاز» جديدة، يجمع الاتحاد الأوروبي، اليوم، الأوكرانيين والروس في برلين، على أمل أن يتوصّل الطرفان إلى اتفاق بشأن مستقبل إمدادات الغاز الروسية لأوروبا عبر أوكرانيا، قبل انتهاء مدة الاتفاق الحالي في نهاية عام 2019.وفي بيان صدر قبل بدء الاجتماع، قال المفوض الأوروبي المكلّف بشؤون الطاقة السلوفاكي، ماروس سيفكوفيتش: «من الواضح أن الوقت ينفد وأن المفاوضات التي تنتظرنا معقدة». علماً بأن سيفكوفيتش سيجري محادثات مع وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، ووزير الخارجية الأوكراني بافلو كليمكين، إضافة إلى ممثلين عن مجموعتي الغاز الروسية «غازبروم» والأوكرانية «نافتوغاز»، اللتين تتواجهان في المحاكم منذ سنوات.
الخلاف الكبير بين مجموعتي الغاز بدأ مع إعلان «غازبروم» ــ التي خفضت إلى حد كبير كميات الغاز التي تصدرها عبر أوكرانيا على خلفية الخلاف بين البلدين، منذ ضم موسكو القرم عام 2014 واندلاع النزاع في شرق أوكرانيا ــ عزمها خفض هذه الكميات بشكلٍ أكبر. وهو إجراء ستتخذه «غازبروم» بعد إتمام مشروعي أنابيب الغاز اللذين سيلتفان على أوكرانيا، وهما «توركيش ستريم»، الذي سيمد أوروبا بالغاز عبر تركيا، و«نورد ستريم 2» الذي تأمل المجموعة في بدء عمله بحلول نهاية 2019.
ويهدف مشروع «نورد ستريم 2»، البالغ طوله حوالى 1200 كلم، إلى مضاعفة قدرات خط «نورد ستريم 1»، والسماح بنقل المزيد من الغاز مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
من جانبٍ آخر، صبّ تنامي حاجات أوروبا إلى الغاز في مصلحة روسيا ومجموعتها «غازبروم»، بالرغم من عزمها على الحد من ارتهانها لموسكو على صعيد الطاقة. فقد أصبح «نورد ستريم 1» في الفصل الأول من عام 2018، الخط الرئيسي لنقل الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي (36% من مجمل صادرات الغاز مقابل 34% عبر أوكرانيا)، بحسب ما أفادت المفوضية الأوروبية. ولهذه الأسباب، ترى أوكرانيا أن مشروع «نورد ستريم 2» قد يشكل تهديداً لها، علماً أنها تسيطر حالياً على خط أنابيب الغاز المؤدي إلى أوروبا الوسطى. ولذلك، تتخوف أوكرانيا من أن يتم إغلاق خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر أراضيها عند ظهور المشروع الروسي الجديد.
من جهته، سعى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للطمأنة، مؤكداً استعداد بلاده للإبقاء على الإمدادات عبر أوكرانيا بعد بدء عمل خط «نورد ستريم 2» وتمديد عقد نقل الغاز عبر هذا البلد. لكنه اشترط من أجل ذلك تسوية الخلاف بين «نافتوغاز» و«غازبروم»، «أمام محكمة التحكيم في ستوكهولم»، التي تتواجه المجموعتان أمامها حول عدة مسائل منها رسوم عبور الغاز.
تتخوف أوكرانيا من أن يتم إغلاق خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر أراضيها عند ظهور المشروع الروسي (أ ف ب )

مشروع «سياسي تماماً»
ما يعد لافتاً لناحية موقف بعض الدول الأوروبية من خط أنابيب الغاز الجديد، هي رؤية برلين التي تبدلت؛ فبعدما أكدت لفترة طويلة أن هذا الخط محض «تجاري»، ورفعت في نهاية آذار/مارس الماضي آخر العقبات في وجه بنائه، سدّدت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في نيسان/أبريل ضربة مفاجئة إلى المشروع، حين طالبت بتكريس دور أوكرانيا في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
وقالت المستشارة: «هناك أيضاً عوامل سياسية علينا أخذها في عين الاعتبار»، مضيفة أن «مشروعاً يفتقر إلى الوضوح بشأن دور أوكرانيا في نقل (الغاز) أمر غير ممكن».
بدوره، رأى الرئيس الأوكراني، بيترو بوروشنكو، أن «المشروع سياسي تماماً»، متسائلاً «لماذا تنفق عشرات مليارات الدولارات لجعل الاقتصاد الأوروبي أقل فاعلية وتنافسية وسياسة الطاقة الأوروبية أكثر ارتهاناً لروسيا؟».
ومن جانبٍ آخر، تعرض المشروع لانتقادات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يرى أنه من مصلحة الولايات المتحدة أن تمد أوروبا بالغاز الطبيعي المسال بواسطة بواخر، ولو أن هذه الوسيلة هي في الوقت الحاضر أكثر كلفة بكثير من الغاز الروسي.
وخلال لقائه، أمس، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، قال ترامب: «سنبيع الغاز الطبيعي المسال وننافس خط أنابيب الغاز (نورد ستريم 1). أعتقد أننا سننافسه بنجاح، حتى لو أن هناك أفضلية صغيرة من حيث الموقع» للغاز الروسي.

«ارتهان» متزايد؟
إن كان الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي سجل تراجعاً بين عامي 2010 و2014، فإن هذا التوجه انعكس منذ ذلك الحين، ولا سيّما بسبب تراجع الإنتاج الأوروبي بشكلٍ متزايد وخصوصاً في هولندا.
اليوم، تؤمن «غازبروم» نحو 35% من استهلاك الغاز في القارة الأوروبية، وهي حصة ازدادت في السنوات الأخيرة رغم تصميم الاتحاد الأوروبي على الحد من ارتهانه لموسكو على صعيد إمدادات الطاقة. ففي حين بلغت صادراتها من الغاز إلى أوروبا مستويات قياسية في 2016 و2017، ولا سيما في ظل شتاء على درجة خاصة من القسوة، تشير النتائج هذا العام إلى أن صادرات «غازبروم» زادت بنسبة 6,6% خلال الفصل الأول من عام 2018 كمعدل سنوي.

خطوط أنابيب موضع جدل
حالياً، تصدر روسيا الغاز إلى أوروبا عبر «نورد ستريم 1» الذي يصل إلى ألمانيا، وخطي أنابيب يصلان إلى بولندا عبر بيلاروسيا، وأربعة خطوط أنابيب عبر أوكرانيا، إضافة إلى خط «ستريم» الذي يمر عبر تركيا وعمليات تسليم مباشرة لفنلندا ودول البلطيق.
لكن «غازبروم» تسعى لتطوير خطي أنابيب آخرين بدعم المجموعات الأوروبية الكبرى على صعيد التمويل، بهدف الحفاظ على حصتها من السوق وخفض عمليات النقل عبر أوكرانيا إلى أدنى حد ممكن. وتأمل المجموعة في بدء العمل بخطي الأنابيب الجديدين (توركيش ستريم عبر تركيا ونورد ستريم 2 عبر البلطيق)، غير أن المفوضية الأوروبية تبقى شديدة الحذر حيال هذا المشروع. وإن كانت غير قادرة على التصدي له، فهي تريد التثبت من أنه يحترم قوانين سوق الطاقة الأوروبية ولا سيما على صعيد المنافسة، وسط المعارضة الشديدة التي تبديها بولندا ودول أوروبا الشرقية لهذا المشروع. لكن، بالرغم من عزم أوروبا المعلن تنويع مصادر إمدادها بالطاقة، فإن المصادر البديلة تبقى متعثرة.

أهمية التوصل إلى اتفاق
في بعض الفترات، كانت منشآت نقل الغاز الروسية تعمل بـ99% من طاقتها. في هذا الإطار، رأى الباحث جاك شاربلز، في دارسة أصدرها معهد «أوكسفورد» لدراسات الطاقة مؤخراً، أن «النظام وصل إلى ملء قدرته عملياً»، معتبراً أن الإمدادات عبر أوكرانيا هي الوحيدة التي تملك «قدرات متاحة في فترات الطلب الشديد في الشتاء»، ولا سيما على ضوء التوقعات بأن يستمر الطلب الأوروبي في التزايد. لهذا، توصلت دراسة شاربلز إلى أنه «سيبقى من الضروري نقل الغاز عبر أوكرانيا حتى بدء عمل نورد ستريم 2 وتوركيش ستريم». لكن بعد ذلك، لن يكون خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر أوكرانيا سوى حل تكميلي «ما لم يتم التوصل إلى اتفاق خاص مع المفوضية الأوروبية»، أو «ما لم يطلب الزبائن أن يستمر نقل الغاز عبر أوكرانيا». ولفت، كذلك، إلى أنه «إذا كانت غازبروم على استعداد للإبقاء على عمليات نقل سنوية محدودة (عبر أوكرانيا)، فإن نظيرتها الأوكرانية قد تشكك في الجدوى التجارية من الإبقاء على نظام واسع لنقل الغاز» لتسليم كميات محدودة فقط، «إلا إذا ازدادت نفقات عبور الغاز بشكلٍ كبير».
في السياق نفسه، رأى الباحث في المعهد ذاته، تييري بروس، أن المطلوب هو بالتأكيد التوصل إلى اتفاق «لما بعد 2019»، إنما كذلك إيجاد حل في هذه الأثناء؛ إذ تطالب «غازبروم» أمام القضاء بإلغاء جميع عقودها مع أوكرانيا. واعتبر بروس أنه «لو كانت المسألة محض تجارية، لكانت أوكرانيا قادرة على جعل نورد ستريم 2 غير تنافسي من خلال خفض رسوم عبور الغاز»، في حين أن كييف تطالب أمام القضاء بزيادتها.