تشن الشركات التكنولوجيّة الكبرى حروباً. تخوض معارك، أو تكتفي بالتوسّع في تخطيط وحياكة مؤامرات. هذا ما تكشفه التقارير الصحافية التي نُشرت، منذ بداية العام الحالي، عن دور عمالقة التكنولوجيا في ممارسة الضغوط في واشنطن. إلى جانب كونها رائدة في مجالها عالمياً، تُعرف هذه الشركات، وخصوصاً في الداخل الأميركي، بسطوتها الكبيرة وتأثيرها في مختلف المجالات الأخرى، انطلاقاً من السياسة وليس انتهاءً بالمجتمع، وذلك استناداً إلى ما كوّنته من جماعات ضغط، تملك من النفوذ ما يكفي لتتمكّن من تقديم تشريعات على أخرى ضمن أروقة الكونغرس، أو تفعيل سياسات معيّنة تراعي مصالحها.وفق التقارير المنشورة، أنفقت «غوغل» و«فايسبوك» و«مايكروسوفت» و«آبل» و«أمازون»، ما مجموعه 50 مليون دولار من أجل أعمال اللوبي التي مارستها، خلال السنة الأولى من رئاسة دونالد ترامب. واقع يلقي الضوء على التمدّد المطرد لصانعي التكنولوجيا في البلاد، بالتوازي مع القلق المتنامي من تصاعد نفوذها.
مثلاً، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست»، في كانون الثاني، أن «غوغل» تخطّت كل الشركات الأخرى في إطار عمليات الضغط التي مارستها في واشنطن، عام 2017. بالتالي، وبحسب الصحيفة ذاتها، حطّم «عملاق البحث» سجلّه الخاص، بتخصيص أكثر من 18 مليون دولار، أي بزيادة 17 في المئة عن عام 2016، وذلك لممارسة ضغوط على الكونغرس والوكالات الفدرالية والبيت الأبيض، في قضايا تتعلق بالهجرة، والإصلاح الضريبي...
ولكن في العام ذاته، كسرت شركات، مثل «فايسبوك» و«أمازون» و«آبل»، سجلّها الخاص، بضخ أموالٍ في ممارسة عمليات الضغط أيضاً. وقد رفع موقع «فايسبوك» إنفاقه بنسبة 32 في المئة، بضخّه أكثر من 11 مليون دولار، بينما زادت شركة «آبل» نفقاتها بنسبة 51 في المئة. كذلك، خصّصت شركة «أمازون» حوالى 13 مليون دولار لعمليات الضغط، في زيادة بنسبة 16 في المئة عن عام 2016.

«آمازون» مثال
من بين هذه الشركات، استحوذت «أمازون» على انتباه الإعلام، في الفترة الأخيرة، استناداً الى نفوذها الكبير الذي تمارسه بهدف تحصيل أرباح تجارية، وخصوصاً عبر عقود مع المؤسسات الحكومية.
وللإطلالة على الدور الذي تلعبه، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تحقيقاً موسّعاً يتناول في جزء كبير منه هذا النشاط، فضلاً عن دور سياسي تلعبه، بالاستناد إلى لجان العمل السياسي التابعة لها، فأشارت إلى أن الشركة قامت ببناء حضور ضخم في العاصمة الأميركية، معتمدة على جيش من جماعات الضغط، ولائحة متنامية من العقود الحكومية.
وفيما جرى التركيز على مؤسس الشركة جيف بيزوس (أغنى أغنياء العالم)، فقد أشار معدّو التحقيق إلى أنه «بنى واحدة من أكبر عمليات الضغط في واشنطن، حتى أكبر من تلك التي تمارسها شركات مثل إكسون موبيل ووولمارت». بالتوازي، وصلت عائدات «أمازون»، العام الماضي، إلى 177 مليار دولار، وباتت متشابكة بعمق مع الحكومة الفيدرالية. لكنّها أيضاً أصبحت من المقاولين الحكوميين الرئيسيين، «مع ما يقدّر بنحو 1.5 مليار دولار من العقود، في العام الماضي». ولا تكتفي الشركة بذلك، فهي تدفع «بقوة» باتجاه تغيير قوانين تسمح لها بالسطوة التجارية ضمن المؤسسات الحكومية، والتأثير في السياسات الضريبية، وهو ما يشهد معارضة من شركات أخرى، وحتى من عدد من المشرّعين.

جيش من مجموعات الضغط
في سبيل تفعيل سياساتها، تعمد الشركات التكنولوجية العملاقة إلى إغراق واشنطن بالأموال، وتمارس الضغط على أعضاء فاعلين في الحزبين (الجمهوري والديموقراطي)، إلى درجة أن صحيفة «ذا غارديان»عنونت أحد تقاريرها، المنشورة قبل أشهر قليلة، بـ:«إنسَ وول ستريت (واجهة البورصة والشركات المالية الأميركية)، سيليكون فالي (واجهة شركات التكنولوجيا الكبرى) هي القوة السياسية الجديدة في واشنطن».
من الأساليب التي تعمد إليها هذه الشركات، تمويل المؤسسات البحثية وجماعات الدعم، بهدف ممارسة نفوذها على صانعي السياسة. «ذا غارديان»، أشارت إلى مثال بسيط في هذا المجال، متحدثة عن واقعة حصلت مع أحد العاملين في إحدى المؤسسات البحثية، وهو باري لين، الذي عمل في مؤسسة «أميركا الجديدة» (New American Foundation). لين درس، على مدى 15 عاماً، القوة المتنامية لشركات التكنولوجيا، مثل «غوغل» و«فايسبوك». إلا أنه طُرد منذ فترة، لأن «غوغل» ــ وهي واحدة من أكبر ممولي المؤسسة التي يعمل فيها ــ لم تكن راضية عن مسار أبحاثه، التي كان يدعو من خلالها إلى أن تتمّ معاملة عمالقة التكنولوجيا، على أنها شركات احتكارية.
من جهة ثانية، لتفعيل استخدام أموالها في الاتجاه الصحيح، وأيضاً للمساعدة في معاركها، تعمد هذه الشركات إلى بناء جيوش من مجموعات الضغط. في تقرير «وول ستريت جورنال»، ذُكر أن «أمازون» تملك، حالياً، جيشاً مكوّناً من حوالى 100 مجموعة ضغط، حاضرة في أكثر من 12 شركة، وتعمل على لائحة من القضايا، من بينها الضرائب، التجارة، المشتريات الحكومية، التنظيمات التي تتعلّق بالطائرات بدون طيار (Drones)، وغيرها من المسائل التي تهم مصالحها... كذلك، نمت حملة التبرعات من قبل لجنة العمل السياسي التابعة لها، لتصل إلى 637 ألف دولار خلال العام الحالي، نصفها للديموقراطيين والنصف الآخر للجمهوريين، وقد ارتفعت من 515 ألفاً عام 2016.
بنى بيزوس واحدة من أكبر عمليات الضغط في واشنطن (عن الويب)

بالتوازي، شهد إنفاق «أمازون» على جماعات الدعم ارتفاعاً أيضاً. وقد أفيد بأنها أنفقت مبالغ كبيرة لـ82 مجموعة، في عام 2017، بما فيها لكيانات ذات ميول محافظة يمكن أن تساعد في المعارك السياسية إلى جانب الجمهوريين، مثل «American Enterprise Institute» وغيره.
وتجدر الإشارة إلى أن بيزوس، مؤسس «أمازون»، سعى إلى تمكين نفوذه في مجالات أخرى، بإنفاقه 250 مليون دولار من ماله الخاص، من أجل شراء صحيفة «واشنطن بوست»، في عام 2013.
علاوة على ما تقدم، بإمكان «أمازون» أن تصبح جزءاً كبيراً من النسيج الاجتماعي في العاصمة، إذ من المتوقع أن يوفّر مقرّها الجديد 50 ألف وظيفة، وأكثر من 5 مليارات دولار كاستثمارات، على مدى حوالى عقدين. عموماً، وفق «وول ستريت جورنال»، ستنمو أعمال «أمازون» مع الحكومة الأميركية، لتصل إلى 2.8 مليار دولار، في عام 2018، و4.6 مليارات دولار عام 2019، أي أكثر من 300 مليون دولار من عام 2015.

ترامب العدو اللدود
منذ بداية رئاسته إلى اليوم، واجهت شركات التكنولوجيا العملاقة الكثير من الهجمات من دونالد ترامب. وفي داخل الحكومة، يعتبر هذا الأخير من التحديات الكبرى لها، ربطاً بقراراته التي تتعلق بالتغيّر المناخي، وإجراءات منع السفر، والهجرة وغيرها. مثلاً، طالما هاجم ترامب بيزوس و«أمازون»، بسبب «مجموعة من الخطايا» ــ من بينها «تجنّب الضرائب»، وفق ما يُنقل عنه. وفي الوقت الذي كان فيه مرشحاً للرئاسة، طالما هاجم بيزوس عبر «تويتر»، حيث اعتبر أنه يستخدم «واشنطن بوست» كملاذ ضريبي. أما في الأشهر الأخيرة، فقد تزايدت حملة ترامب على بيزوس، بناء على اعتقاده بأنه يستخدم «واشنطن بوست» من أجل انتقاد رئاسته، وربطاً باعتقاد آخر يتعلّق بالمسائل التجارية، و«تأثير بيزوس السلبي» في هذا المجال.