«لا يمكنك أن تكون مثل رجلٍ ملتحٍ، يعبث متكاسلاً بلحيته، وينظر كيف يمكن أن تتحوّل الدولة إلى بركة مياه عكرة، يصطاد منها الأثرياء ذوو النفوذ السمكات الذهبية».تلك العبارة، التي قالها فلاديمير بوتين قبل أشهر، تختزل موقفه السلبي من المعارضة الروسية، أو بعضاً منها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بشخصيات، حوّلها الإعلام الغربي، وامتداداته الداخلية، إلى «أبطال» و«ثوريين» في مواجهة الدولة «التسلّطية» و«الدكتاتورية المقنّعة».
ينطلق الرئيس الروسي من تلك النظرة السلبية تجاه المعارضين من خلفيتين، يدرك جيداً أنهما تثيران هواجس الغالبية الساحقة من المواطنين الروس: حقبة التسعينيات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، والفوضى التي تمخّض عنها الصراع الدائر في أوكرانيا منذ ما سُمّي بـ«الثورة البرتقالية».
على هذا الأساس، يحرص بوتين دائماً على التذكير بهاتين المحطتين، للتشكيك بما يطرحه المعارضون قولاً وعملاً، حين يتعلق الأمر بمرشحة، مثل النجمة الإعلامية كسينيا سابتشاك، التي تخوض حملتها الانتخابية تحت شعار «ضد الجميع»، والتي وصف بوتين برنامجها بـ«غير البنّاء»؛ أو «النجم الغائب» في الانتخابات الحالية، أليكسي نافالني، الذي أنزله الرئيس الروسي إلى مرتبة ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الجورجي السابق، الذي يحمّله شعبه مسؤولية ما حلّ ببلاده من ويلات، على أثر الهزيمة الساحقة أمام روسيا في حرب عام 2008، والذي سرعان ما اختار أن يعبث في الحياة السياسية في أوكرانيا، التي يحمل أيضاً جنسيتها، قبل أن يتحوّل إلى رجل عديم الجنسية، ومنبوذ في معظم دول العالم!
«هل تريدين منّا أن نحذو حذو أوكرانيا ليجري في شوارعنا أشخاص من أمثال ساكاشفيلي»، سأل بوتين «منافسته» المربكة، قبل أن يجيب على سؤاله بلهجة حاسمة: «أنا على يقين بأنّ مواطنينا لا يريدون ذلك، ودولتنا ستضمن عدم تكرار السيناريو الأوكراني في روسيا».
برغم ذلك، يحرص بوتين على توجيه الرسائل الإيجابية تجاه المعارضين أنفسهم، بشرط أن يكون سلوكهم «بنّاءً»، وهو ما عبّر عنه، قبل أيام، في مقابلة مع شبكة «أن بي سي» الأميركية، بالقول: «أود التعاون مع هؤلاء الناس وأنا على استعداد للقيام بذلك، لجعل بلادنا أقوى وأكثر قدرة وفعالية على المنافسة، فضلاً عن الاكتفاء الذاتي».
ولكن تلك الرغبة في التعاون المشروط بطابعه «البنّاء»، تبقى شعاراً فضفاضاً، خصوصاً في ظل التناقض في الأجندات الداخلية والخارجية بين سيّد الكرملين والمعارضين، لا سيما الجدد منهم، والذي يطال الملفات الأشد حساسية في السياسة الروسية.
على هذا الأساس، لن يجد بوتين سياسة المعارضين «بنّاءة»، حين تقترب طموحات بعض المرشحين من المشاريع الغربية المثيرة للقلق، أو حين تسافر كسينيا سابتشاك الى الولايات المتحدة، لتقوم بما يشبه تقديم أوراق الاعتماد لدونالد ترامب.
على النقيض، لا يجد بوتين حساسية في التعامل مع المعارضة الروسية التقليدية، مهما تعدّدت توجّهاتها، يميناً ويساراً.
هذا التفريق في الموقف بين المعارضة الجديدة وبين المعارضة التقليدية، ينطلق من عاملين، أحدهما مرتبط بالكلمة المفتاح التي غالباً ما يستخدمها بوتين في تلك المقاربة، وهي «المعارضة البنّاءة»، أي تلك غير المرتبطة بأجندات «التخريب»، بنسختيها التسعينية أو المعاصرة؛ والثانية عدم زعزعة الأسس التي أعيد على أساسها تشكيل منظومة الحكم في روسيا، والسياسات الداخلية والخارجية، منذ بداية الحقبة البوتينية.
على هذا الأساس، لا يضير بوتين أن يتعهد مرشح شيوعي مثل بافيل غورودين بسحب القوات الروسية من سوريا، أو أن يعارض يميني مثل غريغوري يافلينسكي عودة شبه جزيرة القرم إلى حضن «الوطن الأم»، أو أن يبالغ فلاديمير جيرينوفسكي في خطابه القومي المحافظ، طالما أن الأمر يقتصر على تسجيل المواقف الانتخابية، ولا يشكل أي تهديد للمعادلات القائمة، والموزونة بدقّة فائقة.
ولعلّ هنا تكمن أزمة المعارضة الروسية، التي ما زالت تعاني من عجز سياسي مزمن، يحول دون الدفع بمرشّح جدّي في الاستحقاقات الانتخابية المفصلية، فالمعارضة التقليدية، بتموضعها الحالي ضمن المنظومة الحاكمة، لا تستطيع أن تقدّم مشروعاً تغييرياً يتجاوز مشروع بوتين، في حين تبدو المعارضة الجديدة غير قادرة على تحييد برامجها عن برامج «التخريب» الغربية.
وبعيداً عن الحملات الإعلامية، المعروفة الغايات، والتي تذهب دوماً نحو «شيطنة» النظام الحالي في روسيا، فإنّ ثمة عوامل جوهرية، في الحياة السياسية الروسية، تجعل رئيساً، مدعوماً بمنظومة مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية مثل فلاديمير بوتين، لا يجد صعوبة في ضمان استمرارية الحكم، ما لم تتطور الأمور باتجاه ضرب بنية النظام السياسي بحد ذاته.
أول تلك العوامل الجوهرية، مرتبط بنظرة المواطن الروسي إلى رئيس الدولة، انطلاقاً من الصفات الشخصية التي تجعل هذا المرشح او ذاك يستحق عن جدارة هذا اللقب. ولا شك أن التجربة السياسية في روسيا، والممتدة لقرون، قد رسخت تلك النظرة الشعبية إلى الحاكم.
في العهد الإمبراطوري، كان القيصر هو الرمز، فالدولة تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، لذلك لا يزال الروس يذكرون باعتزاز وفخر أسماء مثل بطرس الأكبر والامبراطورة كاترين، أو حتى ايفان فاسيليفتش (الرهيب). وفي العهد السوفياتي، لم تلغ المأسسة الثورية لنظام الحكم، ولا عمليات النقد الذاتي لـ«عبادة الفرد» تلك النظرة التي تربط رأس الهرم في الدولة بقاعدتها. وعلى هذا الأساس، فإنّ الآمال الكبيرة التي عُلّقت على بوريس يلتسين، في مطلع التسعينيات، من قبل شريحة كبرى من الروس، سرعان ما تلاشت حين وهن الرئيس جسدياً… وسياسياً.
هذا الواقع التاريخي، يدركه بوتين جيّداً، وهو ما يفسّر حرصه الشديد على صورة «الرئيس القوي»، الذي يتمتع بـ«الحيوية»، التي افتقدها بوريس يلتسين منذ أواسط التسعينيات، و«العصرية» التي تُنقّي صورة الحاكم من المظاهر النمطية التقليدية سواء تعلّق الأمر بالقياصرة أو الأمناء العامين للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، سواء تعلّق الأمر بممارسة رياضة «الجودو» و«الهوكي» أو الغطس في مياه متجمّدة، أو التواصل المباشر مع الناس، في زيارات تمتد من شرق البلاد إلى غربها، بفارق 11 منطقة زمنية، ومؤتمرات صحافية مطوّلة، أشهرها مؤتمر صحافي مباشر مع الجمهور في أواسط العام، ومؤتمر حواري مع مئات الصحافيين في أواخره.
في هذا الميدان، لم يستطع أيّ من المعارضين تقديم أنفسهم للناخبين على النحو الذي ينتزع الإعجاب الفطري بفلاديمير بوتين، وبالتالي التأثير على «بسيكولوجيا الجماهير» التواقة إلى «الرئيس القوي».
الشيوعيون، على سبيل المثال، ظلوا طوال عقدين متمسكين بمرشّحهم الدائم غينادي زيوغانوف، بخطابه النظري الموروث، والذي ساهم في تدني شعبيته استحقاقاً بعد آخر، إلى أن قرروا أخيراً الدفع ببافيل غورودين، الذي سرعان ما اتخذ وضعية الدفاع، أمام سيل الاتهامات الموجهة إليه، على خلفية ثروته الضخمة، وامتلاكه حسابات في مصارف خارجية.
وضع بوتين، نافالني، في مرتبة ميخائيل ساكاشفيلي

أما فلاديمير جيرنوفسكي، زعيم «الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي»، فلم يستطع، بعد ست معارك انتخابية، أن يحرّر نفسه من صورة ذلك العجوز الشعبوي المشاغب، أو أن يجدّد خطابه التقليدي المتراوح بين النزعة المحافظة والمتشددة، والمواقف النارية المعادية لليبرالية والشيوعية على حد سواء.
وأمّا كسينيا سابتشاك، فلم تسعَ حتى الآن، سوى لبناء صورتها على إرث اليكسي نافالني، الغائب قسراً عن المشهد الانتخابي، وذلك على نحو مثير للسخرية والشفقة في آن واحد، خصوصاً أن «النجمة التلفزيونية»، المنغمسة في الثقافة الاستهلاكية التي اجتاحت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قررت فجأة اقتحام السياسة الروسية المعقدة، وبشكل مثير للاستفزازات، التي تدفع كثيرين في روسيا إلى وصفها بـ«الابنة العقوق»، بعدما تنكّرت لما فعله بوتين خلال التسعينيات لإنقاذ والدها، رئيس عمدة سانت بطرسبورغ.
بوريس تيتوف يمثل بدوره حالة غريبة، فهو يخوض الانتخابات، مقرّاً بأن نتيجتها محسومة، ومنطلقاً من شعبية ضئيلة لم تمنح «حزب النمو» الذي يتزعمه سوى اثنين في المئة من أصوات المقترعين في انتخابات الدوما، ولكنه يبرر مشاركته في «السباق» بالرغبة في إقناع بوتين بـ«إصلاح الاقتصاد»، وإحداث تغييرات طفيفة في السياسة الخارجية، لجهة تطبيع العلاقات مع الغرب، خدمة للاقتصاد الروسي.
ثمة نماذج أخرى، للمعارضين الروس، فغريغوري يافلينسكي، زعيم حزب «يابلوكو»، وسيرغي بابورين، زعيم «الاتحاد الشعبي الروسي»، وماكسيم سوراكين، زعيم حزب «شيوعيو روسيا»، يبدون دوماً إصراراً على السير عكس المزاج الشعبي الروسي، إذ يعارض الأول ضم شبه جزيرة القرم والحملة العسكرية في سوريا، وهما عنوانان لفخر الروس بقوة دولتهم، فيما يخوض الثاني، الذي لا تعرفه سوى قلة من الناس، حملته ببرنامج مبهم عنوانه الوحيد مناهضة «الليبرالية الجديدة»، في حين يذهب الثالث نحو المطالبة بـ«رئيس ستاليني».
وإذا كان العجز في تقديم «المرشح القوي» المنافس لـ«الرئيس القوي» هو العامل الجوهري الأول في أزمة المعارضة الروسية، فإنّ تشتّتها يشكل العامل الجوهري الثاني، فبرغم الهدف المشترك، الذي قد يجمعها، وهو كبح جماح بوتين السياسي، إلا أنه نادراً ما اتفق المعارضون على برنامج تحالفي، سواء في انتخابات الرئاسة أو البرلمان، حتى حين يتعلق الأمر بالمعسكر الواحد، فالكثير من الليبراليين يتهمون اليوم يافلينسكي، أو حتى سابتشاك، بأنهما «ديكور» انتخابي لبوتين، فيما يتبادل الشيوعيون، بحزبهم التقليدي والمنشق، الاتهامات على كافة المستويات «الأيديولوجية»، في حين يبقى جيرنوفسكي الهدف الدائم للجميع، باعتباره «المهرّج» الذي يخدم دوائر الحكم، بمواقفه المثيرة للجدل.
ولعلّ هذا الانقسام يجعل فئات واسعة من الشعب الروسي، تضع هؤلاء المعارضين ضمن مصاف تلك النخبة السياسية، التي عاثت فساداً بروسيا «اليلتسينية»، على نقيض فلاديمير بوتين، الذي رسم إطاراً محدداً لمسيرته الرئاسية، يمكن البحث عن جذورها في «مانيفستو الألفية الثالثة»، الذي تلاه عشية تعيينه رئيساً بالوكالة ليلة رأس السنة 1999-2000، وعنوانها العريض «سيادة الدولة».
وهذا المصطلح يحمل رمزية خاصة في القاموس السياسي الروسي، إذا ما أخذ في الاعتبار أن جذر كلمة «غاسودارستفا» (الدولة)، هي كلمة «غاسودار» (الحاكم)، ما يجعل «الدولة القوية» مرتبطة بـ«الرئيس القوي»، والعكس صحيح.