يخشى خبراء وسياسيون أوروبيون من مجرد إجراء المملكة المتحدة استفتاء عاما على البقاء في الإتحاد الأوروبي، إذ إن نتيجة الإستفتاء ــ مهما كانت ــ سيكون لها تأثيرات حاسمة على مستقبل صيغة الاتحاد. أغلب الأوروبيين بالطبع يريدون بقاء بريطانيا عضواً كاملاً، وهم يرون أن التصويت بـ"نعم" للبقاء يعني بالضرورة أن الإتحاد الأوروبي (كمؤسسة) سيتعلم من التجربة ويطوّر من آليات العمل واتخاذ القرار، ليكون أقرب إلى تطلعات الشعوب الأوروبية وطموحاتها. أما التصويت بـ"لا" والخروج الفعلي للندن فقد يعنيان نهاية فكرة الاتحاد الأوروبي بمجملها، وهي مرحلة ستكون لها تأثيرات سلبية جدا على الاقتصادات الأوروبية دون إستثناء، وستحد من تنقلات الأفراد والبضائع، بل وقد تصل إلى حدود إعادة طرح الاحتمال النظري لعودة إمكانية نشوء نزاعات عسكرية بين الكتل المتنافسة.الإسكندنافيون مثلاً (وهم تاريخياً كانوا دوماً مترددين بشأن الاتحاد، وبقيت النرويج خارجه، فيما قبلت فنلندا فقط عملة اليورو)، يشعرون بأن الاتحاد أضاع وقتاً كثيراً في محاولة بناء الهيكل الأساسي لـ"ولايات متحدة أوروبية" وذلك بدلاً من تعزيز أدوات التعاون بين الدول الأعضاء لمواجهة الإستحقاقات الشاملة عبر الحدود، كالبيئة والتغيير المناخي وأخيراً الهجرة. ولا شك في أن خطوات السويد المنفردة لإعادة العمل بالحدود مع دول الاتحاد في مواجهة تدفق "اللاجئين" من الشرق الأوسط وأفريقيا هي إشارة رمزية مهمة إلى نفاد صبر الإسكندنافيين من عقم سياسات الإتحاد. من هنا، فإنّ الاستفتاء البريطاني يقوي موقف الساسة الإسكندنافيين تجاه الاتحاد: إنّ التصويت للبقاء سيدعم أجندتهم للدفع بإتجاه إتحاد أكثر براغماتية، فيما التصويت بـ"لا" وخروج بريطانيا فقد يكونان غالباً نهاية الرحلة للاتحاد الأوروبي في الشمال أيضاً.
يعتقد بير غارتون، هو نائب سويدي سابق عن "حزب الخضر"، في كتاب صدر له حديثاً بشأن مستقبل أحزاب "الخضر" في الاتحاد الأوروبي، أن الدول الإسكندنافية الأعضاء الثلاثة (السويد وفنلندا والدنمارك) لم تكن لتنضم للاتحاد أصلاً لو لم تكن بريطانيا عضواً فيه. ولذلك، فهو يرى أن التصويت البريطاني السلبي يعني مباشرة إستدعاء الأفكار الإقليمية القديمة (من بينها مجموعة النوردك مثلأً).
قد يدفع هكذا سيناريو بالدول الست المكونة في البداية للاتحاد، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، إلى إطلاق اتحاد مختلف، على الرغم من أنّ شعبية فكرة "الإتحاد الأوروبي" هذه الأيام تعاني بشدة وتبدو في أدنى مستوياتها (٦٥٪ من الفرنسيين قالوا إنهم غير راضين عن الاتحاد)، ما يعني وببساطة أن الشعوب قد لا تصوت لمصلحة إجراءات من ذلك النوع.
لا يكاد الألمان يجدون تفسيراً واضحاً للسلوك البريطاني المتسرع

في إيرلندا (الأقرب ثقافياً وإجرائياً للمملكة المتحدة) هناك ترقب وقلق. إيرلندا كانت دوماً من المستفيدين من الاتحاد، وخاصة أنه أعطاها ثقة غير مسبوقة في المجالين السياسي والمالي. لذا، فإن احتمال خروج بريطانيا سيكون بمثابة كارثة كبيرة للبلاد. أما إزاء احتمال بقاء بريطانيا، فيقول أحد الساسة الإيرلنديين، في مقالة أخيرة له: سيعطي ذلك درساً للإدارة الإيرلندية في كيفية تحصيل منافع أفضل من الاتحاد الأوروبي على المدى المتوسط، بدلاً من الجلوس وانتظار تعليمات بيروقراطيي بروكسل.
البلجيكيون (الذين يستضيفون مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل)، يشعرون بدورهم بالصدمة والقلق من إجراء الإستفتاء البريطاني، ويعتقد بعضهم بأن تفتت الاتحاد وخروج بريطانيا يعرّضان أوروبا لخطر إستراتيجي داهم في مواجهة المد الروسي المتعاظم في عهد فلاديميير بوتين. بينما الفرنسيون (الذين رفضوا مرتين إنضمام المملكة المتحدة للسوق الأوروبية المشتركة ــ سلف الاتحاد الأوروبي الحالي)، فهم على العموم حريصون على بقاء بريطانيا في الاتحاد، لكن يبدو، كما تقول "ذي غارديان" في تقرير لها من باريس، أن تعليمات صارمة وجهت للساسة الفرنسيين بعدم إطلاق مواقف إعلامية في أي إتجاه بسبب الحساسية الثقافية التاريخية والحادة بين البلدين. السلطات الفرنسية تعلم تماماً أن شكل الاتحاد الأوروبي الذي تمثل فيه فرنسا، مع ألمانيا، أعمدته الرئيسة، سيتغير جذرياً إذا قررت بريطانيا بالذات الانسحاب منه.
من برلين، فإنّ المشهد قاتم جدا. فبعد أشهر من "الغنج" البريطاني والمفاوضات المملة لإعطاء بريطانيا سياسات تفضيلية في بعض المجالات الحساسة مالياً، هاهم البريطانيون مع ذلك على وشك الخروج من الاتحاد. لا يكاد الألمان يجدون تفسيراً للسلوك البريطاني المتسرع الذي لن تكون نتائجه إيجابية لبريطانيا على أي صعيد. ويبدو إنزعاج الساسة في برلين واضحاً من التلميحات التي أرسلها بعضهم في مقابلات تلفزيونية حول غياب الروح الأوروبية من النقاش الداخلي البريطاني، إذ يبدو التركيز متمحورا حول مصالح بريطانيا فحسب دون أي إهتمام يذكر بمصالح العائلة الأوروبية ككل. ولهذا، فإن أي عودة لاحقة للإتحاد في حال خروج المملكة المتحدة الآن لن تكون رحلة سهلة للبريطانيين، وسيتعين عليهم قبول شروط أقسى بكثير، ليس أقلها قبول العملة الموحدة وتطبيق إتفاقيات مثل "شينغن" إن هم رغبوا في العودة في وقت لاحق. وعن ذلك، تقول كاترينا بارلي، السكرتيرة العامة لـ"الحزب الإجتماعي الديموقراطي": "لن يكون مسموحاً بعد اليوم لإحدى دول الإتحاد بأن تجني فقط الفوائد من وراء عضويتها، بينما هي لا تشترك مع بقية الدول في تحمل المسؤوليات".
الأوروبيون الشرقيون مصابون بأرق بسبب التأثيرات المحتملة على الملايين من مواطنيهم الذين يعيشون ويعملون في المملكة المتحدة، وخاصة أنّ الخروج البريطاني قد يعني عودة سريعة لكتل بشرية ضخمة إلى دول ذات اقتصادات ضعيفة. ولا شك أن كثيراً من العائلات التي تعتمد على مغتربيها في بريطانيا لكسب عيشهم، سيصلّون ليلة الخميس من أجل بقاء المملكة المتحدة في الإتحاد الأوروبي إلى الأبد.
كل أوروبا تترقب نتائج استفتاء الخميس. أزمة اللاجئين التي ضربت القارة العجوز بداية من العام الماضي أثبتت لجميع الأوروبيين، ساسة وشعوباً، أنه لا مناص من وجود سياسات أوروبية واسعة النطاق لتمكين شعوب القارة من التعامل مع التحديات والمسائل العابرة للحدود، ولهذا فإن نتيجة الإستفتاء البريطاني مهما كانت، ستعني بالضرورة إما إتحاداً أوروبياً محسناً ومطوّراً، أو إتحادات أوروبية بديلة.



هولاند يحارب عزلته

يُعدّ الرئيس الاشتراكي، فرنسوا هولاند، نفسه للصدمة التي ستلي الحدث البريطاني، واعداً بإطلاق مبادرة لإحياء الاتحاد الأوروبي في الصباح التالي للاستفتاء. ويجري داخل الاليزيه العمل على الاستجابات المباشرة لكلتا النتيجتين المحتملتين، لكن تحصين الإليزيه لنفسه لتلقي الصدمة لا يخفي الانقسام السياسي الكبير الحاصل في فرنسا بهذا الشأن، الذي فصلته صحيفة «ميديابار» في تقرير لها أمس، مشيرة إلى أن الأثر السلبي الأكبر إذا فاز معكسر «الخروج» سيكون على «الحزب الاشتراكي» الفرنسي في الجانب السياسي. ولا ينظر التقرير بإيجابية إلى مبادرة هولاند على اعتبار أنها محكومة بالفشل، وخصوصا أنه يكرر الخطاب عينه منذ عام 2012.
أما في معسكر اليسار المتطرف، فيمثل الرأي المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أقلية. وفيما لا يؤيد المرشح الرئاسي، جان لوك ميلينشون، أيا من الطرفين، فإنه يرى أن الاستفتاء وقفة مفصلية. ويقول: إنّ الشعوب محكومة بالتنافس عندما نفرض عليها عملة موحدة ونمنعها في الوقت نفسه من الانسجام الضريبي والاجتماعي؛ لذا، فإن الاستفتاء هو بداية النهاية، وهو فرصتنا لنقوم بالبناء بطريقة مختلفة.
وبينما تدعم "الجبهة الوطنية" اليمينية المتشددة خروج بريطانيا، فإنّ المرشحين المحتملين لـ"الحزب الجمهوري" (اليمني) يركزون في مداخلاتهم على انتقاد هولاند وسياساته، محذرين من مخاطر ملف الهجرة، وداعين في الوقت نفسه إلى تجديد تصوّر المشروع الأوروبي.
(الأخبار)