بعيداً من التغييرات «الإيجابيّة» التي ستطرأ على الولايات المتّحدة بعد انتخابات الرئاسة في الرابع من الشهر المقبل، على صعيد معالجة الملفّات المعقّدة في السياسة الخارجيّة، سيواجه القاطن الجديد في البيت الأبيض معضلات اقتصاديّة ضخمة، فيما البلاد تحاول إنقاذ نفسها مالياً، والعالم يتوجّه نحو نظام مالي عالمي جديد، القيادة فيه ليست أميركيّة
حسن شقراني
تصرّ الإدارة الأميركيّة، وأخيراً حديث الرئيس جورج بوش أمس، على أنّ النظام الاقتصادي في الولايات المتّحدة سليم، وأنّ ما أدّى إلى الأزمة الماليّة الأخيرة التي يعاني تداعياتها العالم أجمع، هي حصيلة نمط ساد في البلاد خلال 10 سنوات، تدفّقت خلاله الاستثمارات إلى الولايات المتّحدة، ما دفع نحو تضخّم الإقراض بطريقة غير منطقيّة. وهذا التضخّم وصل إلى حدوده القصوى في سوق العقارات، التي انفجرت فقاعتها في آب من العام الماضي. انفجار أدّى إلى انهيار البورصات العالميّة.
ومن هذا المنطلق، تصرّ الإدارة أيضاً على جدوى الخطّة التي تفترضها، والتي تقرّ بإنعاش السوق المالي عبر 700 مليار دولار، تَقرَّر استخدام 250 مليار دولار منها للمساهمة في رساميل المصارف لإعادة الثقة والأسس لسوق الائتمان. وذلك لسبب أساسي، إلى جانب ضرورة إرساء الهدوء في المؤشّرات الماليّة المختلّة (الخسارة خلال عام واحد في السوق الماليّة بلغت 8.4 مليارات دولار). وهذا السبب هو تجنيب الاقتصاد الحقيقي عواقب الركود، وانعكاسات الأزمة عليه.
فالبلاد حالياً تعاني من معدّل بطالة يبلغ 6.1 في المئة، وقد يصل إلى 8 في المئة قريباً، ومؤشّرات الاستهلاك الذي يمثّل ثلثي النشاط الاقتصادي في البلاد في تدهور. ففي أيلول الماضي، انخفضت مبيعات التجزئة بنسبة 1.2 في المئة، ما يشير إلى أفق سوداويّ أكثر، مع تمدّد الأزمة الماليّة وإحجام المستهلكين عن الإنفاق.
هذا الأفق سيضطرّ الإدارة الأميركيّة المقبلة، التي يظهر حتّى الآن أنّها ستكون ديموقراطيّة بقيادة باراك أوباما، إلى التعاطي معه إنّما بهامش ضيّق من المناورة. نظراً للتحديات الكثيرة التي تنتظرها.
ففي ظلّ التراجعات الحادّة في أداء الشركات والمصانع والمؤسّسات الماليّة، يحتاج الاقتصاد الأميركيّ إلى رزمة محفّزات اقتصاديّة، يقدّر الاقتصاديّون أنّ حجمها يجب أن يقارب الـ300 مليار دولار من أجل دفع الاقتصاد إلى الأمام وإخراجه من المستنقع الموجود فيه. كما تحتاج العائلات الأميركيّة إلى إعفاءات ضريبيّة لتمكينها من تخطّي المرحلة الصعبة. وحسبما تنقل صحيفة «نيويورك تايمز»، فإنّ رزمة المحفزّات الأخيرة التي مرّرت خلال العام الجاري (تخطّى حجمها الـ150 مليار دولار) لم ينفق الأميركيّون سوى ما بين 10 في المئة و20 في المئة من قيمتها، وادّخروا الباقي.
من جهة أخرى، فإنّ برامج الرعاية الاجتماعيّة، ستقضم أجزاءً أكبر من الموازنة، التي سجّلت عجزاً قياسياً خلال العام الجاري بلغ 454.8 مليار دولار. وعلى سبيل المثال، فإنّ الرعاية الصحيّة سترتفع حصّتها إلى 25 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي (البالغ حالياً 13.84 مليار دولار) مع حلول عام 2025، بعدما كانت تلك النسبة 5 في المئة فقط في عام 1960.
والولايات المتّحدة تعاني تبعات الطبيعة الهيكليّة لاقتصادها المستهلك الأكبر في العالم. فبحسب تقرير أصدره «معهد السياسة الدوليّة» منذ 10 أيّام، أدّى العجز التجاري الأميركي في السلع، باستثناء النفط، إلى خسارة المجتمع الأميركي 5.6 ملايين وظيفة خلال عام 2007. فرغم النموّ القويّ للصادرات خلال السنوات الأخيرة، بلغ ذلك العجز 473 مليار دولار (مع إضافة النفط إليه بلغ 700.3 مليار دولار)، أي أقل بـ48 مليار دولار عن الذروة القياسية المسجّلة في عام 2006. وخلال العام الجاري، يتوقّع أن يبلغ ذلك العجز 717.1 مليار دولار. وتجدر الإشارة إلى أنّ العجز مع الصين وحده، بلغ خلال آب الماضي 25.3 مليار دولار، مرتفعاً بنسبة 1.8 في المئة على أساس سنوي.
وبالفعل فإنّ التجارة تمثّل قضيّة حساسّة في الصراع على المكتب البيضاوي بين باراك أوباما وجون ماكاين. فالأوّل يتعهّد بإلغاء إعفاءات ضريبية تشجع الشركات على نقل الوظائف إلى الخارج وتشديد الخناق على ممارسات الصين بشأن العملة. فيما الثاني ينتقد معارضته اتفاقات التجارة الحرة مع كوريا الجنوبية وكولومبيا التي تريد إدارة بوش أن يقرّها الكونغرس.
إذاً فالحقبة المقبلة للولايات المتّحدة على الصعيد الاقتصادي تحتاج إلى جهد كبير للإصلاح، إن كان عبر أوباما أو منافسه ماكاين. والمعالجة لا تفترض فقط تهدئة «وول ستريت»، بل التطلّع لكيفيّة النفاذ من شرك الركود. المرشّحان ينتقد بعضهما الآخر حالياً، والأميركيّون يترقّبون الخلاص الاقتصادي، ولكن منذ زمن بعيد اتّضخ أنّ مستوى الرفاهيّة الذي تمتّعوا به منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، في كنف حلقة «الاستهلاك الجماعي الواسع»، لم يعد موجوداً.


ليلة وضحاها

في سياق التأكيد المستمر على ضرورة دعم الإجراءات الاقتصاديّة والماليّة التي اتخذتها إدارته في الآونة الأخيرة، قال الرئيس الأميركي جورج بوش إنّ المشاكل الاقتصاديّة التي تعاني منها الولايات المتّحدة حالياً «لم تولد بين ليلة وضحاها»، بل تراكمت خلال سنوات مضت، لذا فإنّ معالجتها تتطلّب وقتاً. ورأى أنّ على الرئيس الأميركي المقبل أن يجعل إصلاح القوانين الماليّة «على رأس أولويّاته»، وأن يحرص في الوقت نفسه على تجنب الخطوات التي يمكن أن تضرّ بالاقتصاد الأميركي.