حين تقلّصت المقاومة وانتهت الشقيقة الكبرىوائل عبد الفتاح
لم تكن المذبحة وحدها في غزة. كانت هناك حرب نرجسيات. يمكن أن نقول إنها كانت الحرب الأساسية. وآلة القتل الإسرائيلية لم تكن فقط في واحدة من دوراتها الهوجاء لتثبيت جدار الرعب الحديدي بينها وبين العرب. لكنها في مهمة بالوكالة عن أنظمة عربية نرجسيّتها مجروحة. في اليوم الأول من المذبحة، وقف الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس ووزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط يقولان كلمة واحدة: «حذّرناكم».
إنها بداية مشهد لم يحلم به بن غوريون وهو يخطّط سنة 1950 لإخراج مصر من الصراع بما تحقق اليوم. لم يحلم بأن تتحوّل مصر إلى متهمة بالشراكة مع إسرائيل. المشهد عبثي تماماً. مصر و«حماس» تتبادلان التهم، وأيضاً مصر وحزب الله. ولا أحد يعرف ماذا يفعل مع إسرائيل. كأن اسرائيل هي الحقيقة المطلقة. وضربتها عادية وقوتها مطلقة. هذا أقصى ما تحلم به إسرائيل. أصبحت بلطجيّتها عادية، ومذابحها كأنها مسلسل يومي مثير على الشاشة. عادت أسطورة إسرائيل التي لا تقهر، رغم أنها قهرت مرات عديدة من سيناء وحتى جنوب لبنان. تدرك إسرائيل أنها محميّة بالرعب الذي تبثّه في الجيران. ويتعلم أطفالها مع أول قطرة حليب أن دولة إسرائيل تعني ببساطة: شعب ضعيف مضطهد من كل الدنيا صنع الجيش المرعب في المنطقة.
هذه المعجزة سرّ بقاء إسرائيل جزيرة للخوف في محيط عربي كان لا بد من نزع أظافر التمرد فيه. تماماً كما يفعل هواة تربية الحيوانات في البيوت. العرب الآن حيوانات أليفة بلا عقل ولا روح. تنهشهم حرب النرجسيات بين الأنظمة والتنظيمات. الأنظمة تدافع عن خلودها في السلطة. شهوتها لا تزال مفتوحة رغم شيخوختها الخشنة.والتنظيمات اتخذت من «إسلاميتها» مبرراً لامتلاك حقيقة مطلقة. أمراء الحق الإلهي ألغوا كل آخر لا ينضوي تحت رايتهم.
أرادت «حماس» الانفراد بالمقاومة. وتعاملت على أنها في غزوة يمكنها أن تخطف بها غزة وتقيم فيها «إمارة إسلامية»؛ تقيم فيها حدود تقطيع الأيدي والجلد والرجم. نرجسية أصابتها بعد الوصول إلى السلطة وتصورت أنها يمكن أن تكون سلطة ومقاومة في الوقت نفسه. ومشكلتها الأكبر أنها أدارت الصراع مع إسرائيل بمنطق الحرب الدينية. وهو منطق يعزلها عن العالم. ويعزلها عن المحيط الحيوي للصراع، فإسرائيل لا تقتل المسلمين فقط ولا تحارب باليهود فقط. أرادت «حماس» القفز على تاريخ طويل من نضال كانت المقاومة فيه (مع ما فيها من خطايا وآثام سياسية وأخلاقية) هي نموذج متنوع من اليمين إلى اليسار، ومن الديني إلى العلماني، ومن المحافظ إلى المتحرر. نموذج كانت فيه المقاومة هي «جنة التقدمية في محيط متخلّف». بهذه الصورة انفتحت القضية على العالم (أصبح لها مقاتلون من دول وأديان وأجناس متنوعة). وبهذه الصورة ظلت المقاومة مشروع حياة لا سباقاً إلى الموت.
هذا أحد أسباب الاختصار المرعب: فلسطين تصغر من كامل التراب الفلسطيني إلى حدود 1967. ومن فلسطين «من النهر إلى البحر» إلى الضفة والقطاع. والآن تحوّلت فلسطين إلى غزة، وغزة إلى «حماس».
«حماس» هي مقاومة غزة الناصعة، لكنها لا يمكن أن تكون غزة ولا فلسطين. في إغلاق الدائرة موت للمقاومة ولـ«حماس» معاً. يمكن في الصراع على السلطة فهم تشدد الحركة، لكن في ظرف لم تكتمل فيه «الدولة» ولا «مؤسسات السلطة»، فإن خطف غزة انتحار يدفع إليه التطرف في النرجسية. نرجسية التنظيم قابلتها نرجسية الدولة الجريحة مصر. الشقيقة الكبرى، التي تتصور دورها أبدياً فوق التاريخ وأكبر من قواعد الواقع السياسي. نظامها مجروح باتهامات أنه منتقص السيادة على الحدود في سيناء، وهو جرح لم تفهمه «حماس»، بل صبّت عليه الزيت المغلي حين اقتحمت وكسرت الحدود في أول ٢٠٠٧.
هوى الحكام تغيّر بعد حرب تشرين ١٩٧٣، ولم تتغير معه مفاهيم الأمن القومي. بدت الدولة في مصر كأنها تفكر بطريقة، وتسير في طريق آخر. لم يستبدل نظام أنور السادات وخليفته حسني مبارك مفهوم الأمن القومي بمفهوم جديد.
لا يزال في نظام مبارك بعض إعجاب بدور الشقيقة الكبرى، لكنه لا يريد أن يدفع فاتورة هذا الدور. نظام مبارك استقال تقريباً من الدور، لكنه مبرر وجوده ومسوّغ تعيينه كطرف في المنطقة. باسمه يحصل النظام على المعونات والاستثمارات. وورقة غزة هي آخر الأوراق التي تركها الأميركيون للنظام. من دونها سيخرج من حسابات المنطقة تماماً.
نظام حائر فعلاً. لأنه سيصبح من دون هذا الدور عارياًَ. لن يجد شماعات للفشل.
لا تزال بعض كوادر نظام مبارك تؤمن برؤية الستينيات، عندما كانت مصر هي الشقيقة الكبرى والذراع الطويلة للعرب في ضرب إسرائيل. واحد من هؤلاء هو الذي كتب كلمة مبارك في اليوم الثالث للعدوان على غزة. لكن الرئيس عندما ارتجل، وتكلم من دون ورقة في مؤتمر صحافي مع مذيعة واحدة في قناة الأخبار المصرية، قال كلاماً شعبويّاً عن تبرير إغلاق معبر رفح والثمن الذي دفعته مصر من أجل القضية الفلسطينية. وردّد النغمة نفسها التي تقول: لولا فلسطين لكانت مصر الآن غنيّة وبلا أزمات.
السؤال الذي سيحرج نرجسيّته أكثر هو أن مصر غادرت خط النار منذ أكثر من ٣٠ سنة ولا تزال منهكة؟ كانت نرجسية نظام مبارك على المحكّ أيضاً، فـ«حماس» امتداد للخصم التقليدي «الإخوان المسلمين»، ووجودها كقوة مسلحة تحكم على الحدود قلق وجودي لدولة ترى عداوة «الإخوان» تاريخية.


ببغانات الأنظمةيضع الببغانات حدوداً للوطنية. الخارج عنها عميل أو مأجور لشتم الحاكم، الذي لا ينطق عن الهوى. تتوحش الببغانات في لحظات الحرب، تتحوّل السياسة إلى أفعال إلهية لا إلى فعل يحتمل الخطأ والصواب.
في حرب غزة، ظهرت عناصر نائمة في صحف ومحطات تلفزيونية، تم تدريبها بمهارة فائقة لتنافس كتّاباًَ ومذيعين بنوا رواجهم وشهرتهم على معارضة النظام. هذه العناصر سمح لها بمعارضة خفيفة تصنع لها بعض الصدقية والنجومية عند جمهور واسع يشتاق إلى شتم النظام وحكومته.
هذا الفصيل الجديد أظهر براعة في الأزمة الأخيرة. أفراده متوحّشون أكثر، يمنحون صكوك الوطنية ويدافعون عن خطايا لا يدافع النظام نفسه عنها.