يعيش المواطن السويسري هاجسين: الأول أن تتباطأ ساعة يده ويتأخر عن موعده، والثاني أن يُمسّ نظام بلده المصرفي الذي يقوم على مبدأ السرية. التكنولوجيا تكفّلت برفع الهاجس الأول، بينما يبدو أن الدستور لم يعد قادراً على تبديد الثاني، وخصوصاً بعد عام مالي صعب شهدت فيه مصارف «البلد المسالم» تقلّص ودائعها بواقع 1.2 تريليون دولار
جنيف ــ بسّام الطيارة
مرت كل الأزمات المالية «مرور الكرام» على النظام المصرفي السويسري، حتى الأزمة المالية العالمية التي تدوم وتتوسع ليس من المتوقع لها أن تؤثر تأثيراً كبيراً على «تدفق السيولة» في شريان هذا النظام المعمر الذي يعود للقرن الثاني عشر. إلا أن ما يتربص بالمصارف المختبئة بين جبال الألب وفي وديانها هو توجه عام في العالم لمزيد من الشفافية في كلّ ما يتعلّق بدورة المال. في السابق كانت الشبهات تدور حول أموال ديكتاتوريات العالم الثالث وأنظمة الفساد التي تقبع في خزائن الجهاز المصرفي السويسري. ودأب الناشطون في مجال حقوق الإنسان وملاحقة الفاسدين على التنديد بنظام يسهّل «سرقة ثروات الدول» وتهريبها إلى سويسرا في غياب رقابة مالية قادرة. وبات تعبير «صاحب حساب سرّي في سويسرا» مرادفاً لصفة «صاحب مال حرام»، وخصوصاً عندما يوجّه لحكّام دول غير ديموقراطية.
إلا أنّ هذا لم يكن يمنع عدداً كبيراً من مواطني الدول المتقدمة من اقتناء حسابات سريّة في سويسرا، هي بمعظمها، إذا استثنينا بعض الثروات العريقة، تأتي إما من «تهرّب ضريبي أو من عمولات أو نتيجة أرباح في عمليات تجارية ممنوعة» مثل تهريب السلاح أو المخدرات أو بيع ثروات بلاد فقيرة. ومع ظهور الأزمة المالية الأخيرة، استفاقت الدول الغنية على انهيار اقتصادها الافتراضي، ووجدت أن «ثروات طائلة واقعية» قد تبخرت نتيجة المضاربات في الأسواق الافتراضية، وبالطبع كان من الطبيعي أن تتوجه الأنظار نحو الخزائن السويسرية في تتبع لهذه الثروات المتبخرة.
وفتح هذا الملف خلافاً قديماً بين بيرن والدول الصناعية التي تتهم السلطات السويسرية بـ«تسهيل التهرب الضريبي». وكان البلد الأوروبي يجيب دائماً بأنه مستعدّ للتعاون ودراسة رفع الحصانة عن أي حساب في «إطار قضائي». إلا أن الإدارات الضريبية، في ظلّ عدم إمكان الكشف عن أموال لم يُصرّح عنها، لا تستطيع مباشرة أي دعوى قضائية، ما يجعل «نظام الدفاع السويسري» محكماً، وبالتالي تطالب بـ«الوصول إلى اللوائح الكاملة لمواطنيها». وفي مقدمة هذه الإدارات الإدارة الأميركية التي تجعل من «دفع الضرائب أوّل موجبات المواطنية».
وفي هذا السياق، يقول أحد المصرفيين السويسريّين لـ«الأخبار» إنّ «الحظ خدم الأميركيين» حين أرسل موظفٌ صُرف تعسّفياً من خدمته في مصرف «UBS» (ثاني أكبر المصارف السويسريّة)، للسلطات المعنيّة الأميركيّة لائحة تتضمّن أسماء مواطنين أميركيين يملكون حسابات سرية في المصرف. وهو ما سمح لها بـ«التقاط رأس الخيط» والمطالبة برفع السرية عما بات يسمى بـ«اللائحة الصغيرة»، وهو ما قبل به «UBS» وأبرم اتفاقاً قبل أسبوع مع القضاء الأميركي تعهّد بموجبه تسليم هويات العملاء الذين ساعدهم على التهرب الضريبي، ونص الاتفاق على دفع غرامة تبلغ ٧٨٠ مليون دولار.
وأثار الاتفاق الذعر في الأوساط المصرفيّة خوفاً من أن يمثّل سابقة تهدّد «الثقة العمياء» للنظام المصرفي السويسري. وهو ما حصل، إذ قبل أن يستفيق المصرفيّون من صدمتهم أعلنت وزارة العدل الأميركية أنّها تقدمت بشكوى تطالب فيها «UBS» بتسليمها معلومات تتعلّق بـ٥٢ ألف حساب سرّي أميركي. وقدرت أنها تمثل أرصدة بقيمة ١٥ مليار دولار «تهمّ» مصلحة الضرائب الأميركية.
ووفقاً لأكثر من مصرفي يعمل على ضفاف بحيرة لومان فإن «UBS» «يدفع ثمن تراجعه وضعفه في الاتفاق الأول» الذي قبل بموجبه رفع السرية عن ٢٥٠ اسماً. ويستطرد أحدهم متسائلاً «لماذا تتوقف السلطات الأميركية عند هذا الحد؟». والواقع أن المصرف لم يوقّع على الاتفاق الأول إلا بعد موافقة سلطة مراقبة الأسواق المالية السويسرية.
وقد منعت المحكمة الإدارية في نهاية الأسبوع الماضي، تحت طائلة التعرّض للملاحقة القضائيّة، نقل بيانات مصرفيّة إضافية لعملاء المصرف المذكور لإدارة الضرائب الأميركية في محاولة للحدّ من الضرر الذي يمكن أن يهدّد النظام ككلّ.
وفي ميامي في فلوريدا بنى محامو المصرف السويسري دفاعهم أمام المحكمة الفدرالية على مبدأ «انتهاك واشنطن للسيادة السويسرية» بطلبها من موظفي المصرف مخالفة القانون السويسري، ما يمكن أن يضعهم تحت طائلة القانون ويقودهم إلى السجن إذا كشفوا أسماء عملائهم حتى ولو كانوا من حاملي الجنسية الأميركية.
أما في أوروبا فإن انتهاك السيادة السويسرية هو آخر هم لهم، ويتابع جيران سويسرا، الذين نظروا إليها بعيون حسودة طيلة قرون ماضية بسبب نظامها المصرفي، تطوّرات الصراع مع السلطات الأميركية بانتظار النتيجة... للتحرّك!


ثقة صلبة

إذا وضعنا في نافذة أي محرّك بحث على شبكة الإنترنت كلمتي «حساب سويسري» تكون النتيجة مذهلة. «غوغل» يشير إلى ما يزيد عن 11.4 مليون رابط خلال أقل من ثانية من البحث! ذلك أنّه رغم «الهجمة الأميركية المنظمة» فإن الثقة بالنظام المصرفي السويسري لا تزال صلبة. كم لا تزال مواقع المصارف تجيب عن أسئلة المتطفلين أو تتدخل في المداولات الإلكترونية لتصحيح معلومة أو نفي شائعة. وتدور معظم المحادثات حول «الرقم السرّي»، لكون هذا التعبير ممزوجاً بوهج المال والثراء ويدغدغ مشاعر المتصفّحين وإثارة غرائزهم المادية.