قد تصل خسائر القطاع المالي في الولايات المتّحدة، بحسب أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، نورييل روبيني، إلى 3.6 تريليونات دولار ما يجعل هذا النظام «مفلساً عملياً». الأمر الذي يدعو السلطات إلى اعتماد مبدأ التأميم الجزئي لإنعاش رساميل المصارف. مبدأ يرضخ له «عرّاب» انعدام الرقابة على المصارف، آلان غرينسبان، ولكن بشروط!
حسن شقراني
شهدت الولايات المتّحدة خلال الفترة الممتدّة من منتصف آب عام 2007، التاريخ الرسمي لانفجار فقّاعة الرهون العقاريّة، حتّى بداية العام الجاري، موجة تأميمات مباشرة وغير مباشرة، كليّة أو جزئيّة، تهدف إلى احتواء التدهور الحاصل في قطاع المال بمصارفه الاستثماريّة والتجاريّة ومؤسّساته الماليّة (شركات تأمين، وساطة ماليّة...).
ولكن من منطلق أنّ هذا النظام المالي المعقّد كان من بين أبرز «إنجازات» النيوليبراليّة وجعل نيويورك لولب العولمة الماليّة والقيّمين عليه «ملوك العالم»، لاقت عمليّة التأميم الجزئي للمصارف المتعثّرة انتقادات لاذعة من RFG «الكبار» في القطاع (إن كان في شقّه الرسمي أو الخاص). ولكن تلك العمليّة كانت ضروريّة، وأوّل من تحدّث عن فعاليّتها رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، ما دفع الولايات المتّحدة إلى اعتماد هذا الأسلوب عوضاً عن تخصيص مبلغ الـ700 مليار دولار، المرصودة في خطّة الإنقاذ المالي لتخليص السوق من المنتجات الماليّة المسمّمة المرتبطة بالرهون العقاريّة.
وحتّى قبل رواج مبدأ التأميم الجزئي، مدخلاً لعلاج النظام المصرفي، لجأت السلطات الماليّة الأميركيّة إلى إجراء أضخم تأميم في التاريخ من خلال شراء شركتَي الرهن العقاري «Freddie Mac» و«Fannie Mae» (اللتين كانتا تخضعان أصلاً للوصاية الرسميّة) بمبلغ يقارب 200 مليار دولار.
ويتّضح الآن أن حثّ المصارف على استئناف الإقراض من أجل إنعاش الاقتصاد الذي وصل معدّل البطالة فيه إلى 7.6 في المئة، لا يمكن أن يجري «بالحسنى» لذا فإنّ شراء حصص في رساميلها ضروري للسيطرة على قراراتها. وهذا ما توصّل إليه أخيراً الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركي، آلان غرينسبان، الذي رأى في مقابلة مع صحيفة «Financial Times» البريطانيّة، أنّ «تأميم بعض المصارف مؤقّتاً قد يكون ضرورياً بهدف تسهيل (عمليّة تطبيق) إعادة هيكلة سريعة ومنتظمة».
وبالفعل فإنّ تلك الإجراءات ضروريّة وتصبح منطقيّة حتّى لأكثر الساسة أو الأكاديميّين تشدّداً لحريّة السوق واليد الخفيّة. فوفقاً لأستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، نورييل روبيني، الذي كان من أوائل الذين توقّعوا حدوث الأزمة في النظام المالي الأميركي، تزداد الصعوبات بالنسبة إلى المؤسّسات الماليّة الأميركيّة ما يحتم استخدام تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب من أجل تحفيز رسملتها.
ورغم أنّ غرينسبان أصبح مقتنعاً بهذا التوجّه الإنقاذي في قطاع المال والأعمال (توجّه أعاد الاعتبار إلى أفكار الفيلسوف كارل ماركس ونظرته إلى آليّات الرأسماليّة) فإنّه يؤكّد أنّ «هذا ما يجب فعله كلّ 100 عام»!. وهذا الأمر يعني بطبيعة الحال أنّ حريّة الأسواق وانفلاتها من الرقابة يفترضان بطبيعة الحال حدوث أزمة يتدخّل القطاع العام لاحتوائها، مستخدماً طبعاً أموال المكلّفين، بعد أن يكون «عظماء النظام!» قد نجحوا في حصد غنائم المراحل الورديّة «رأسمالياً» من الدورة.
حديث غرينسبان يأتي في وقت حسّاس جداً بالنسبة إلى الولايات المتّحدة وقطاعها المالي وطبعاً ارتباطاته بالجوانب الحقيقيّة من الاقتصاد. ففيما يرتقب العالم مفاعيل خطّة الإنقاذ الاقتصادي التي تبلغ قيمتها 787 مليار دولار ووقّعها الرئيس باراك أوباما أوّل من أمس، لا تزال الأمور معقدّة جداً في القطاع مالي. ويوم أمس، أعلنت وزارة الخزانة أنّها سترفع حجم المساعدات إلى «Freddie Mac» و«Fannie Mae» إلى 200 مليار دولار لكلّ منهما.
غير أنّ استمرار التعاطي مع مسألة تأميم المصارف الخاصّة من منطلق أنّ «الدولة مصرفيٌّ سيّء» غير منطقي، لأنّ إيقاع التوازن الذي فشل القطاع الخاص في فرضه في النظام المالي (في ظلّ غياب هيئة الرقابة)، بسبب الجشع و«حفلة الجنون المالي» في «وول ستريت»، يدفع الحكومة، وهي تمثّل المواطنين، إلى بلورة آليّات الإنقاذ، فما المانع من أن تصبح مساهِمة تضمن الجدوى المالية والاقتصاديّة العامّة؟.
المانع يكمن في عبارة بسيطة نقلتها صحيفة «نيويورك تايمز» عن أحد المصرفيّين، وتُعدّ أساسيّة في عقيدة غرينسبان، «لنقل إنّني مصرفي وخلقت 30 مليون دولار. يحقّ لي الحصول على جزء من ذلك»، ولكن بحسب حائز جائزة نوبل للاقتصاد، بول كروغمان، ماذا يحدث إذا خسر ذلك المصرفي 30 مليون دولار؟ الجواب: يهبّ العم سام للمساعدة.
الخوف هو أن يستمّر نمط «غياب الرقابة» الذي أرساه غرينسبان، ويصبح تدخّل العم سام حتمياً ليس كلّ 100 عام، بل لنقل كلّ 10 أعوام!


الفاتورة على الجميع

شدّد الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطاب ألقاه في مدينة فينكس أمس، على أنّ خطته لإنقاذ قطاع الرهن العقاري سيستفيد منها ما بين 7 ملايين وتسعة ملايين أسرة مهددة بخسارة منازلها. ودافع عن الحاجة الملحة للخطّة التي أعلنتها إدارته، مؤكداً أنّها «ستحول دون أن تؤدّي أسوأ سيناريوهات هذه الأزمة إلى مزيد من الأضرار في اقتصادنا». وقال: «نحن جميعاً ندفع ثمن أزمة الرهن العقاري، وسندفع ثمناً أكبر إذا تركنا هذه الأزمة تتفاقم». وتجدر الإشارة إلى خطّتَي وزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي تبلغ قيمتهما الإجماليّة تريليوني دولار.