ربح المصرف الفرنسي في هذه المحاكمة، رغم أن الزوجين أكّدا عدم نيّتهما الدفع. ربح المصرف قضائيّاً، فيما النيران التي تهبّ من واجهتيه، لم تتوقّف مع تدافع رجال الإطفاء إلى المكان. ستظل تشتعل كفانتازيا مطمئنة، في رؤوس من لا يملّون من الترديد دائماً «فلنحرق البنوك، فلنحطّم واجهاتها، وننهب ما في الداخل... نتقاسمه أو نرميه للكلاب»، من دون أن يفعلوا شيئاً، غالباً. لا نعرف إن كان من أشعلوا فرعاً للبنك نفسه في مدينة روان الفرنسية، خلال تظاهرة السترات الصفر في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، قد شاهدوا فيديو الفنّان الهدّام الذي برّر الدافع الأساسي لعمله بأن «وجود بنك في ساحة الثورة الفرنسيّة يجعل من المصرفيين ملوكاً». بافلنسكي الذي وصف عمله أخيراً بالرؤيوي بالتزامن مع ما تشهده فرنسا اليوم، لفت الأنظار منذ عام 2011. قطّب شفتيه بخيط أحمر احتجاجاً على اعتقال أعضاء من حركة «بوسي ريوت». وحين أراد أن ينتقد الطابع السياسي للعلاج النفسي والعقلي في روسيا، وفق تعبيره، قطع شحمة أذنه على مرأى الناس، فوق سطح «مركز سيربسكي للأمراض العقليّة» في موسكو، بحركة دمويّة تستحضر الرسام الهولندي فينسنت فان غوخ. الفن هنا ليس استعارة. إنه يقول الواقع بواقع آخر أشدّ إقلاقاً وجنوناً. كان على الفنانين المسيسين والراديكاليين، خلال القرن العشرين والقرن الحالي، أن يشطبوا أجسادهم، وأن يستبدلوا الكلام بالعواء، والأحلام بالطلقات الناريّة. أفعال واحتجاجات جاءت متطرّفة وشديدة تحت عنوان الفنون الأدائيّة، لتضاهي حجم الأحداث السياسية في العالم خلال تلك السنوات. سحبت العروض إلى خشبات خارج الغاليريهات الفنيّة، إلى الشارع، والمصارف أو حدائق الحيوانات. نقرأ أحياناً سير فنانين مشهورين تحوّلوا من حياة التشرّد والسرقة والمخدرات إلى الفن، وآخرين تزامنت ظروفهم الصعبة مع إنتاجهم الفني. الفنان الأميركي جو غيبونز انتقل من الإخراج السينمائي إلى السطو. لم يستعن بسلاح حين دخل إلى «كابيتال وان بنك» في تشايناتاون في نيويورك. سلّم الموظّف ورقة يعلمه فيها «هذه سرقة، الفواتير كبيرة»، فأعطاه الموظّف ألف دولار، خوفاً ربّما. حتى الآن، لم تعرض المشاهد التي صوّرها غيبونز من كاميرا أخفاها في ثيابه.
قد يستخدمها لاحقاً في أحد فيديوهاته وأفلامه. الصور التي انتشرت له التقطتها كاميرات أخرى، كانت معلّقة في سقف البنك، ومهمّتها مراقبة المكان في النهار، وفي الليل حين يغادر الزوّار والموظفون. رغم دفاعه عن العمل على أنه عرض أدائي تزامن مع ضائقة ماليّة، فقد حكم عليه بالسجن لمدّة عام كامل. علماً أن غيبونز كان قد حذّر في فيديو «اعترافات مختلّ عقليّاً» (2005) له «أنا جو غيبونز. لا أحتاج إلى وظيفة. فقط سآخذ ما أريد». كيف يمكن لفنان أن يأخذ موقفاً من الحرب، من دون أن يبدو ذلك ترفاً أمام من يُقتلون فيها؟ الفنان الأميركي الراحل كريس بيردن (1946 ــ 2015) تخلّص من هالات ضحايا جيش بلاده، بطلقة ناريّة اخترقت ساعده الأيسر في عمله الأدائي shoot عام 1971. حينها، دعا المتفرّجين ليشهدوا على إصابته في إحدى غاليريهات نيويورك، حيث وقف بيردن قبالة شاب يمسك ببارودة صيد، بطلب من الفنان. تاريخ العمل ليس تفصيلاً. مشاهد القتل الأميركي للفيتناميين، جعلت الفنّان يستبدل جسده الأميركي بجسد فيتنامي. جاءت هذه الطلقة كمحاولة للتخلّص من ذنب بلاده. جسده في تلك الحالة، وخطّا الدم السائلان منه صنعا أبلغ الاحتجاجات الفنيّة خلال السبعينيات. بهذا النوع من التمرّد على الأحداث الكبرى، قام الفنان الأوكراني أوليغ كوليك (1961) بعروضه الأدائيّة التي كان يحوّلها إلى صور فوتوغرافيّة. لكن كوليك فضّل الهجوم على تلقّي الضربات بعدما وجد في الحيوانات شخصيات بديلة للذات البشرية. معها مشى في الحقول عارياً، وأكل من علفها. والحقّ أن الحيوانات، ما كانت بالنسبة إلى الفنان إلا شخصيّته الهمجيّة اللاواعية.
نظرة ساخرة وسوداويّة ألقاها جوزيف بويس في وجه أميركا وسياساتها في ظلّ حرب الفييتنام
يتلطّى وراءها ليبرر حيوانيّة مسيّسة كان يدّخرها لاحتجاجات كهذه. قدّم عرضه الأدائي «كلب مجنون» في مدن عدّة طوال التسعينيات. انقضّ على سيارات للشرطة وهو يربط عنقه بطوق وجنزير حديدي. هاجم زوّار غاليري فنية في السويد، وعضّ ناقداً فنيّاً تجاهل عبارة «خطر» المعلّقة بجانبه، قبل أن يهشّم بعض اللوحات المعروضة في الغاليري (ألهَمَ هذا العرض فيلم The Square الذي حاز عنه المخرج السويدي روبن أوستلوند السعفة الذهبيّة في مهرجان «كان» عام 2017).
ضمن الفكرة ذاتها، أدى عرضه «أعضّ أميركا، وأميركا تعضّني» خلال التسعينيات. بدأ العمل منذ وصوله إلى مطار جون. ف. كينيدي في نيويورك. تخلّص من ملابسه، وقادته زوجته/ مدربته كما يطلق عليها في الشوارع. طوال إقامته هناك، كان يدبّ على يديه وقدميه، ويأكل من وعاء الكلاب مباشرة. يعوي بدل أن يتكلّم، ويعضّ إذا تطلّب الأمر ذلك، قبل أن يسجن نفسه وراء الشباك داخل غاليري «ديتش بروجيكتس» في المدينة، حيث جاء الزوّار للتفرّج عليه. لاقى العمل تأويلات كثيرة.
لكن ما هو واضح أن كوليك الكلب بجنزيره الحديدي كان يشير إلى جنازير كثيرة تكبّل الناس، جنازير غير مرئية ثقافيّة، وفنية وماليّة تحكم أميركا وثقافتها الحديثة. اقتبس كوليك عنوان عمله من عمل لأشهر الفنانين الأدائيين في العالم الألماني جوزيف بويس (1921 ــ 1986) بعنوان «أحبّ أميركا، وأميركا تحبّني»، قدّمه عام 1974 في غاليري «رينيه بلوك» في نيويورك. وصل بويس إلى مطار جون كينيدي، وركب رأساً بسيارة إسعاف قادته إلى الغاليري حيث كان ينتظره ذئب أميركي أبيض، لما يمثّله هذا الحيوان من إحالة إلى الروح الأميركيّة الجامحة. طوال ثلاثة أيام، مكث بويس مع الذئب داخل قفص، وجهاً لوجه. الذئب الذي أظهر عدائيّة في البداية تجاه الفنان، ممزّقاً غطاءه، وصل إلى اليوم الثالث بكامل ألفته، بعدما نجح بويس في تدجينه. وفيما تطلّب أمر تهدئة الذئب ثلاثة أيّام، بقي السؤال مفتوحاً: كم تحتاج أميركا وقتاً لأن تتخلّص من وحشيّتها، إن كان ذلك ممكناً؟ نظرة ساخرة وسوداويّة ألقاها بويس في وجه أميركا وسياساتها في ظلّ حربها في الفييتنام، والجرائم العنصريّة التي ترتكبها روحها الجامحة نفسها، تجاه كل من ليس أبيض، كما أشار في حديثه عن العمل. في كلّ الحالات، غادر بويس إلى المطار، بالسيارة التي أقلّته منه، وعاد إلى ألمانيا من دون أن يطأ الأرض الأميركيّة. بويس الذي يعد أحد أبرز صانعي المشهد الفني المعاصر خلال السبعينيات، كان يردّد دائماً: «كلّ رجل فنان».
علي شعيب الذي اقتحم «بنك أوف أميركا» في بيروت عام 1973، لم يخرج حيّاً، ليختار اسماً لتحفته الثوريّة
عبارة تدعو إلى ممارسات فنية حقيقية، تنتفي فيها الحدود بين الفانتازيا الفنية والواقع، وبين الفنان والناشط أو المناضل والمجنون. على هذه القاعدة، قد تصبح الحركات اليوميّة، أو عمليات التمرّد السياسية أبلغ من الأعمال الفنيّة بذاتها. تستحضر هذه المعادلة احتجاجات كثيرة في التاريخ العربي الحديث، جعلت النضال الحقيقي ضرباً من الخيال، وتفوّقت به الأحلام الثوريّة، مثل حادثة خطف ليلى خالد وسليم العيساوي طائرة TWA 840 عام 1969 المتوجّهة إلى تل أبيب وتحويل مسارها إلى دمشق قبل تفجيرها هناك، بعد إخلاء ركّابها، والرفض الذي نفّذته «الحركة الاشتراكية الثوريّة» على تمويل المصارف الأميركية لإسرائيل. لكن علي شعيب الذي اقتحم مع رفاقه الفرع المحلّي لـ «بنك أوف أميركا» في بيروت عام 1973، لم يخرج حيّاً، ليختار اسماً لتحفته الثوريّة.