ضج العالم مؤخراً بمصطلح "حيادية الإنترنت"، أو ما يسمى أيضاً "حرية الإنترنت" و"حيادية الشبكة"، إذ صوتت لجنة الاتصالات الفيدرالية في الولايات المتحدة الأميركية، التي تتألف من 5 أشخاص، الخميس الفائت، على قرار إلغاء مبدأ الحيادية (ثلاثة أشخاص صوتوا مع الإلغاء وشخصان ضد)، ضاربةً بعرض الحائط حق الجميع بالوصول إلى الإنترنت بشكل متساوٍ من دون أي حجب أو تفضيل أو تمييز بين المواقع والتطبيقات، وواضعةً أقوى وسيلة تواصل ومعرفة في العالم بيد شركات خاصة يمكنها أن تقرر ما نرى وما نعلم وأن تحجب ما لا تريده وأن تمنع الأصوات التي لا تعجبها من الوصول إلى الإنترنت، تماماً مثل النظم القمعية، بالإضافة إلى تشريع الابتزاز: ادفع… تصل.
ثلاثة أشخاص هم أجيت باي، رئيس اللجنة (وهو مسؤول سابق في شركة Verizon أحد أبرز مقدمي خدمات الإنترنت في أميركا)، مايكل أوريلي وبريندان كار (جميعهم جمهوريون) تمكنوا من هزيمة الناس والانتصار لشركات مقدمي خدمات الإنترنت في أميركا (بعدما باتت هذه الشركات تسيطر على اللجنة)، وباتوا يمتلكون قوة رهيبة في التحكم بما يصل إلينا على الإنترنت، في خطوة ستعيد تشكيل طريقة عمل الإنترنت في أميركا وستنعكس على العالم، إذ أن إنهاء حيادية الانترنت في الولايات المتحدة يمكن أن يشكّل بداية نهاية الإنترنت المفتوح، القابل للتشغيل المتبادل والمجاني، في العالم، إذ ستشجّع هذه الخطوة مجموعات الضغط التي تديرها شركات مقدمي خدمات الإنترنت في العالم على السعي لإصدار قرارات مماثلة في دول أخرى لتحقيق المزيد من الأرباح.

ما هي حيادية الإنترنت؟

حيادية الإنترنت هي مبدأ يمنع مقدمي خدمات الإنترنت من التمييز بين المواقع والتطبيقات إن من ناحية سرعة نقل البيانات أو الحجب أو التفضيل؛ أي معاملة كل حركة المرور على شبكة الإنترنت بشكل متساوٍ لأن الإنترنت هو مرفق عام يجب أن يكون للجميع الحق بالوصول المفتوح والمتساوي إليه.


="" title="" class="imagecache-465img" />
تصميم رامي عليّان | للاطلاع على الإنفوغرااف كاملاً انقر هنا






عام 2015 تكرّست حيادية الإنترنت في الولايات المتحدة الأميركية كقاعدة لضبط شركات مقدمي خدمات الإنترنت بعد صراع قاس بين هذه الشركات وعدد من الناشطين على الإنترنت. فقد صوتت لجنة الاتصالات الفيدرالية آنذاك (كان يسيطر عليها الديمقراطيون) على اعتماد تصنيف شركات مقدمي خدمات الإنترنت كشركات اتصالات، وبالتالي تنطبق عليهم جميع القواعد التي تنطبق على شركات الاتصالات. هذا التصنيف سمح للجنة أن تفرض على مقدمي الخدمات أن يتعاملوا مع الإنترنت بأنه مرفق ذو منفعة عامة يخضع للتنظيم الحكومي، وليس امتيازاً، مثله مثل الهاتف والمياه والكهرباء… وعليه، لا يمكن حظر أو إبطاء المحتوى (القانوني) ولا يمكن "تحديد الأولويات المدفوعة"، أو السماح لبعض الشركات بدفع محتواها بشكل أسرع من غيرها.

ماذا يعني هذا الأمر تقنياً؟

عند استخدام شبكة الإنترنت للدخول إلى المواقع والتطبيقات وتحميل المحتوى تصل هذه الطلبات على شكل رزم من البيانات التي يجب أن تمر بمقدمي خدمات الإنترنت قبل أن تصل للمستخدم.
تطبيقاً لمبدأ حيادية الإنترنت فإن جميع هذه الرزم، مهما كان محتواها أو مصدرها أو متلقيها، يجب أن تصل بنفس المعدل من دون أي تمييز. وبالتالي من دون حيادية الإنترنت سيكون بإمكان مقدمي خدمات الانترنت التحكّم بما نراه على شبكة الإنترنت من خلال إبطاء سرعة وصول بيانات المواقع الصغيرة غير القادرة على الدفع على سبيل المثال، وتسريع وصول بيانات الشركات الضخمة مثل أمازون ونتفلكس، ومنع الوصول إلى مواقع معينة سوى عبر الاشتراك الشهري، أو حتى حجب الوصول إلى بعض المواقع والتطبيقات. أي أن اتصالنا بالإنترنت لن يعني إمكانية الوصول إلى أي موقع أو تطبيق إذ أنه يجب أن نشترك برزم شهرية تعطينا إمكانية الوصول إلى المواقع التي نريدها.
اليوم، عندما نتحدث عن حيادية الإنترنت نتحدث تحديداً عن معيار تصنيف مقدمي خدمات الإنترنت كشركات اتصالات، أي تصنيف الإنترنت كمرفق ذي منفعة عامة وليس امتيازاً. لكن ما حصل هو أن الخميس الفائت قررت اللجنة المذكورة أن الإنترنت في أميركا لم يعد مرفقاً خاضعاً للتنظيم الحكومي، وتحديداً لم يعد خاضعاً لسيطرة لجنة الاتصالات الفيدرالية، وذلك تنفيذاً لاقتراح إلغاء حيادية الانترنت قدمه رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية أجيت باي الذي عينه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لترؤس اللجنة بداية هذه السنة. لم تقف اللجنة عند هذا الحد إنما منعت صراحة قوانين حماية المستهلك في الولايات من التأثير على حيادية الانترنت، وهذا يعني أن حقوق الولايات في الحكم الذاتي لن تسري على حماية حيادية الانترنت.

تشريع ابتزاز الناس لجني المال

ما يُعطي الإنترنت قوته هو قدرة المستخدم أينما كان ومهما كان على الوصول إلى أي شيء يريده بكبسة زر، وقدرة الشركات والتطبيقات والمواقع على الوصول إلى جميع المستخدمين على هذا الكوكب بكبسة زر. من دون حيادية الإنترنت سيفقد الإنترنت قوته. ستكون شركات مقدمي الخدمات قادرة على التحكم في مدى سرعة وصولنا الى صفحات الإنترنت، وسرعة تحميل المحتوى. المواقع التي نزورها اليوم مجاناً ستصبح مدفوعة عبر رزم مخصصة لمجالات معينة، مثلاً قد يكون هناك رزم لوسائل التواصل الاجتماعي بحيث لا يمكن الوصول إلى تويتر وفايسبوك وإنستاغرام سوى عبر اشتراك شهري. هذه الرزمة لا تخوّلنا مثلاً الوصول إلى تطبيقات الأخبار لذا علينا الاشتراك برزمة أخرى لهذا الغرض. يمكن لمقدم خدمة الانترنت منعنا من الوصول إلى تطبيق لعرض الأفلام لأنه يملك تطبيقاً خاصاً به لبث الأفلام وبالتالي يفرض علينا استخدام تطبيقه من خلال منعنا من الوصول إلى أي تطبيق مشابه.
يشرح موقع Vox أن مقدمي خدمات الانترنت في عصر غياب الحيادية "سيحددون كمية البيانات التي يمكن استخدامها وسيعيدون توجيهنا من مواقع نحاول استخدامها الى مواقع يريدوننا أن نستخدمها بدلاً منها، سيمنعوننا من الوصول الى التطبيقات والمنتجات والمعلومات التي يقدمها منافسوهم أو الشركات الأخرى التي لا يحبونها. حتى أنهم بإمكانهم منعنا من القدرة على الوصول إلى معلومات حول مواضيع معينة، وأحداث، وقضايا لا يريدوننا أن نعلم بها. سيكونون قادرين على ممارسة هذه القوة ليس فقط على المستهلكين الأفراد، ولكن على الشركات أيضاً. وهذا يمكن أن يؤدي إلى خلق "خط انترنت سريع" حيث يفرض مقدمو خدمات الانترنت على شركات مثل تويتر وBitTorrent أن تدفع المزيد من أجل وصول أسرع للمستخدمين أو يفرضون على المستخدمين اشتراكاً للوصول السريع اليها. الشركات الأكبر حجماً والأكثر قوة على الأرجح لن تتأثر بهذا التغيير على عكس الشركات والمواقع الصغيرة".

خط سريع لجني الأرباح

في مقابلة لموقع Futurism يشرح نيكولاس إكونوميديس، أستاذ في كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك، أنّ ما حدث هو أن لجنة الاتصالات الفيدرالية سمحت لمزودي خدمة الإنترنت بجمع الأموال من الناس لوضعهم في ما يسمى "خط سريع".

حيادية الإنترنت
هي مبدأ يمنع مقدمي خدمات الإنترنت من التمييز بين المواقع والتطبيقات
"لنفترض أنني شركة مايكروسوفت، ستأتي شركة AT&T (شركة تقدم خدمات الانترنت) وتقول لي: إذا دفعت لنا هذا المبلغ من المال، نضعك في الخط السريع ولكن ما يحصل فعلياً هو أن "الخط السريع" ليس أسرع من الخط الموجود اليوم، إنما في حال لم تدفع الشركات سيقوم مقدمو الخدمات بوضعها في "خط أبطأ". الآثار ستكون فظيعة. الشركات الكبيرة مثل مايكروسوفت وغوغل وأمازون ستكون قادرة على الدفع، ولكن الشركات الأصغر والمبتكرة لن تستطيع برغم أن هذه الشركات الصغيرة هي محرك النمو للاقتصاد الأميركي وسوف تتراجع ما سينعكس على النمو. في رأيي، هذا هو الابتزاز الذي سيتم فرضه على أي مشروع يرسل معلومات محتوى من خلال شبكة الإنترنت، وقد سمحت لجنة الاتصالات الفيدرالية لهذا الابتزاز بأن يكون قانونياً لأن جهاز التنظيم الذي من المفترض أن ينظّم هذه الصناعة تم الاستيلاء عليه من قبل الصناعة نفسها".
عشرات الدعاوى القضائية للطعن بقرار اللجنة سيتم توجيهها إلى المحاكم الأميركية للتصدي لهذا القرار من قبل شركات التكنولوجيا والناشطين، وأبرزها ما صدر عن النائب العام في نيويورك اريك شنايدرمان الذي اعتبر قرار لجنة الاتصالات الفيدرالية "ضربة للمستهلكين في نيويورك" و"هدية عيد الميلاد المبكرة" لمزودي خدمة الإنترنت التي تمكنهم من وضع مصالحهم فوق زبائنهم، معلناً أنه سيقاضي اللجنة من أجل التراجع عن قرارها.

* للمشاركة في صفحة تكنولوجيا التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]