من قال إن موزة مثبّتة على الحائط بشريط لاصق سوف تنسف معايير التقييم والتثمين وتغلب الذهب وتسخر من بريقه؟ لم تكن مصادفة عابرة حين أطلق عليها منفّذها اسم «كوميدي». لقد فعلها الفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان مرّتين، بيعت خلالها تلك الموزة بـ120 ألف دولار، أما النسخة الثانية منها فقد بيعت بـ150 ألف دولار.
مشانق الموز
تمّ ذلك منذ أربع سنوات، في غاليري «آرت بازل» بعد أكثر من مئة عام على «مبوّلة» الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب حيث قدّم الأخير تحفته مطلقاً عليها اسم «النافورة» ويوقّعها باسم «المغفل». العملان بحسب النقاد يؤكدان شيئاً واحداً، هو: موت الفن. فضمن معايير الحداثة، من الذي يجرؤ على سلب المنفّذ الأصلي لتلك المبولة صفة الفنان؟ حرّر دوشامب الفن من البراويز المذهّبة، والتماثيل من قواعدها الرخاميّة، ليكون الفن هو نحن، أصابعنا، وقمصاننا، وتلك الكتل الإسمنتية الغليظة، والخزفية الرقيقة. نسأل: ما هو الفرق بين حفّار الخشب، ونقّار الخشب أي الطائر الدؤوب الذي يفتح تجويفاً في الشجرة، ويسمّيه بيتاً؟ نجتهد قائلين بأن الفرق بين عمل فنّي وآخر يبدأ من التوليف الذي يُقَدَّم به ذلك العمل الفنّي: فنّان، صالة عرض، مزاد، مسوّق، مقتني، ناقد، إعلام مواكب. حلقة مغلقة تجري خلالها عمليّة تصنيع العمل الفني، وتصريفه، بعد إشهار الفنان وتسويقه.

«موزة»، آندي وارهول

في نفس التوقيت الذي قام فيه كاتيلان بإلصاق تلك الموزة على الحائط وعرضها كعملٍ فني، كانت هناك آلاف أقراط الموز المعلّقة بحبال رقيقة بالأسقف، تتمايل مع الهواء باللونين الأصفر والأخضر وموشاة بالنقاط السوداء والبنّية. مَن الذي قرّر أن هذا ليس عملاً «مفاهيمياً»؟ فعناصر العمل «المفهومي» مكتملة في تلك الأقراط المتناقصة شيئاً فشيئاً بفعل ضربات المناجل التي تحزّها وتفني أعمارها لتبقى تلك الحبال مجرّد مشانق فارغة لأغصان الموز الزائلة.
هكذا استطعنا في هذا التوصيف البسيط، بأن نضفي بعداً فنّياً ووجودياً على ذلك الفعل العاديّ في دكاكين الخضار، مع فارق وحيد: استحالة إيجاد آلية فعليّة، تستطيع تسويق كل بائعي الموز كفنّانين نجوم كما استحالة إيجاد مقتنين، مستعدّين دفع أثمان تلك «المشانق». هنا نضع يدنا على المسألة: ما يحصل في حلقة الفن تلك، هو اختيار شبه عشوائي كل سنة أو كل بضع سنوات لشخص أو لفكرة ويسلَّط عليها الضوء تذكيراً للنخب والجمهور بأن الفن لم يفقد دهشته وجنونه في مرحلة ما بعد الحداثة. تعالوا يا جماعة لتتابعونا ونحن ننفق الأموال الباهظة وندفع ثمن أعمال فنّية زائلة. شاهدوا ذلك الفنان وهو يلقي عباءة على كتفيه مثل سوبرمان، وركّزوا بتلك الفنانة التي حلقت شعر حاجبيها لتلقيه فوق نهر المسيسيبّي، كطقس يحاكي ذرّ رماد الجثث المحروقة، في نهر الغانج، الذي يقطع الهند ليصبّ في بنغلادش.

عن كالدر وصانع المروحة
وبينما نحن هنا، نخوض في نصّ سريع ومقتضب حول تعريف الفنّ، ثمّة شاب ينفّذ «سكيتش» على ورق أبيض لتطوير شكل مروحة وتنفّذ من الحديد. بماذا يتميّز هذا الشاب عن النحات الأميركي ألكساندر كالدر، بمنحوتاته الحديدية المتحرّكة بالهواء؟ أليست المروحة تلك، كتلة حديد متحرّكة بفعل توليدها للهواء؟ نعود لنؤكد أن المسألة، كل المسألة عبارة عن قرار ضمني بتسويق الفرد، لأن تسويق الجمع من المستحيلات. هناك جانب آخر، يكمن في تقديم رسام شكل المروحة لنفسه على أنه فنّان. هذا يحيلني إلى نصيحة قدّمها باول آردن في كتابه «كيفما فكّرت، فكّر العكس» حيث أورد حكاية عن رجل متخصّص بنحت المانيكانات التي تثبت في الواجهات لتعرض عليها الثياب. هكذا كان الرجل يقوم بعمله كحرفيّ جيّد، حتى جاء من نصحه قائلاً: «قدّم نفسك فنّاناً». صار صاحبنا ينهي تماثيله، ويوقّع اسمه عند أطرافها، كما غيّر أماكن عرضها من الواجهات إلى الصالات. هكذا تضاعف تسعير منتجاته بناء على حسن وضعها تحت ضوء العرض، والنقد، وصناعة الاسم، وتسويق الأعمال.
على عكس اعتقادات البعض، بأن عالم الفن لم يعد يقدّم فلسفاته، وأيقوناته، نجد أن نسبة الفنانين فائضة فلا قدرة لنا على رصدها برمتها، وتصنيفها، وملاحظتها.
ضمن كل هذا الضجيج التحليلي، يبقى أجمل الفنّانين، ذلك الذي يقشّر موزة على الرصيف، يلتهمها عارية، رامياً ثوبها الأصفر في سلّة النفايات المثبّتة بعمود رماديّ. ليتابع طريقه منشغلاً بتتبّع أضواء إشارة مرور المشاة.