«ولكن، ما القصة؟ لم يكلف أحد نفسه عناء روايتها، فكان علينا ابتداعها بأنفسنا. الاقتصاد الحر. الحلم الأميركي. أصيب هوراشيو ألجر بالجنون بسبب المخدرات في لاس فيغاس. افعل ذلك الآن: صحافة غونزو الخالصة» - هانتر.س. طومبسون.
تمحورت روايات هوراشيو ألجر، أحد أدباء القرن التاسع عشر الأميركيين، حول أشخاص من أصول متواضعة يرتقون إلى مستوى حياة الطبقة الوسطى المرهفة عن طريق سماتهم التقليدية البحتة وأعمالهم المُستمدّة من الأخلاقيات البروتستانتية. أصبح اسم هوراشيو ألجر وأعماله رمزاً وطنياً للحلم الأميركي ذي الطابع البرجوازي الحقيقي. كل ذلك كان قبل القرن العشرين، قبل سيغموند فرويد، وتمظهرات الحداثة والحربين العالميتين والاضطرابات التي تخلّفت في أعقابهم. بحلول السبعينيات كانت أحلام وخيالات الطبقة الوسطى في أوجها لكنها كانت قد مسخت وبرزت حقيقتها وفُضح زيفها، أقلّه بالنسبة إلى هانتر س. طومسون.

(تصميم: رالف ستيدمان)

كانت رحلة هانتر طومسون إلى لاس فيغاس مليئة بحوادث المخدرات المهلوسة وأحداث سريالية غرائبيّة، لكنها أيضاً كانت رحلة بحث عما يخفيه بريق المشهد وتنقيب عميق عما يجري في أعماق زائريها. هي رحلة صاخبة إلى صميم الحلم الأميركي كما كرّسته طبقة هوراشيو ألجر الوسطى وكما تجسّد هذا الحلم وبات عليه عمرانياً، ثقافياً، وسياسياً.
بسردٍ طويل لا تتقطع أوصاله بين الواقعي والخيالي، يتكئ فيه كاتبه على الرمزية تارةً والإفصاح المباشر طوراً، أخذ هانتر طومسون على عاتقه مهمة ضرب مركزية هذا الحلم، وتشويه مقرّه، أي لاس فيغاس أو كما كان يسميها «أرض الأعداء»، من دون إغفال نقدٍ لاذع للثقافة التي طرحت نفسها بديلة، الهيبيز تحديداً، وأخفقت في طروحاتها حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السائد الذي انقلبت، في الأصل، عليه. في رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» يبيّن طومسون أن مفردة «حلم» في مصطلح «الحلم الأميركي» ما هي إلا توصيف تجريدي، تعبير هلامي، تحمل في طياتها فانتازيا تخص أحفاد هوراشيو ألجر فقط، في حين أن هذا «الحلم» ليس سوى كابوس عموماً، وكل من يحلم في تغييره والتعامل مع صورته، باعتباره حلماً حقيقياً، هو واهن؛ هو عقل يحلم بحلمٍ من داخل الحلم نفسه.
يتقاطع عنوان الرواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» في عبارتَي «الخوف والقرف» مع توصيف سبق وورد في كتاب «نقيض المسيح» للفيلسوف الألماني نيتشه، إلا أن هانتر طومسون عاد وصرّح عن سبب اختياره للعنوان قائلاً «كان شعور الخوف يراودني حينها. لقد اتهمت أنني سرقته. كنت أشعر بالخوف. وهذا أمر طبيعي». لكن الخوف والقرف تحولا عنده إلى فضيلتان للكتابة بالرغم أنه لم يكن راضياً عن النتيجة النهائية للرواية. أراد هانتر طومبسون كتابة كل انطباعاته، وتدوين جميع التفاصيل التي رآها أثناء رحلته الشخصية إلى لاس فيغاس حيث كان بمهمة تغطية صحافية لسباق دراجات نارية «مينت 400». الرحلة التي ألهمته لكتابة الرواية بطريقة تشبه تقنية التمزيق التي نادى بها ويليام بوروز، ومن خلال النثر والسرد الارتجالي، في فصولٍ متداخلة مختلطة حيث تُشكل أحداث الواقع باب الدخول إلى سيناريوهات متخيلة لينفجر المكبوت ويطوف على الوجه. لكن طومسون وبالرغم من تحقيقه هذا الجنون التجريبي في الكتابة، إلا أنه، وبمجرد أن وضع لها إطاراً وأخضعها للتحرير، شعر أنه فشل في تحقيق التجربة الكتابية التي امتاز بها «أسلوب الغونرو» بالطريقة التي كان يتوق إليها.
في شهري آذار ونيسان من عام 1971، قام طومسون برحلتين إلى لاس فيغاس بصحبة المحامي المكسيكي أوسكار زيتا أكوستا. رحلتان ستندمجان في رحلة بحث واحدة لكن طويلة ومحمومة وشبه خيالية عن حلم ألجر الأميركي صعب المنال. ترتكز الرواية حول الصحافي راؤول ديوك (طومسون) ومحاميه الدكتور غونزو (أكوستا) في طريقهما إلى لاس فيغاس لإعداد تقرير عن سباقات «مينت 400» للدراجات النارية لصالح مجلّة لم يذكر اسمها. مع ذلك، فأولويتهما الحقيقية هي العثور على الحلم الأميركي. يحدث ذلك من خلال انغماسهما في مختلف المشروبات والمخدرات التي ابتاعوها بأموال المجلة: «كيسان من الحشيش، خمس وسبعون حبة من الميسالين، خمس ورقات من حمض النشاف عالي القوة، ومملحة مملوءة بالكوكايين إلى نصفها، ومجموعة متنوعة من المخدرات المهيجة والمهدئة، بالإضافة إلى كوارت من التيكيلا وكوارت آخر من شراب الرام، وصندوق من البادوايزر وما يقرب من الـ 500 ملل من الإيثر ودزينتين من الأميل». تتحول رحلتهما إلى سلسلة من تجارب المخدّرات الغريبة، فيدمرون غرف الفنادق، ويحطّمون السيارات، ويخوضون في رؤى غريبة لحيوانات صحراوية مؤنسنة. كل ذلك أثناء تأملهما في انحدار شغف الثقافة المضادة في فترة الستينيات الذهبية في ظل التصاعد الجحيمي للعقلية الاستهلاكية وما أفرزته من أحلام محطمة تطبعت بها فيغاس من حينها. «من هؤلاء الناس؟ هذه الوجوه! من أين يأتون؟ يبدون مثل الرسوم الكاريكاتورية لبائعي السيارات المستعملة من دالاس. لكنهم حقيقيون. يا إلهي، يوجد الكثير منهم، ما زالوا يصرخون حائمين حول الطاولات الرثة في هذه المدينة المهجورة في الرابعة والنصف من صباح يوم الأحد. لا يزالان مثقلين بالحلم الأميركي، تلك رؤيا الرابح الأول تظهر بطريقة ما من فوضى الدقيقة الأخيرة قبل الفجر في كازينو قديم في فيغاس».
أتت رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» مكتملة مع رسومات الفنان البريطاني رالف ستدمان الذي التقاه طومبسون وعمل معه قبل عام على مقاله الشهري في مجلة «سكانلان» المعنون بـ«ديربي كنتاكي فاسد ومنحط». وفي هذا الدمج، بين الصورة المرسومة والكتابة الأدبية التجريبية، رمزية أخرى أراد طومبسون إيصالها، وهي إعلاء للشأن البصري، حيث الظاهرة تتحدث عن نفسها وتقول حالها، فالعين من خلال مراقبتها وامتصاصها مجريات العالم تصبح مفتاحاً للولوج إلى الحقيقة. تبرز رسومات ستيدمان الكاريكاتورية العظيمة المغطاة بلطخات مهلوسة من الحبر والحساسية السوريالية للكتاب بأسلوبٍ فاقع وصادمٍ. تتوافق الصورة الافتتاحية – مخلوقان بشعان برأسين ضخمين، وعينين ملتويتين، وفاهين واسعين فاغرين يقودان سيارة صغيرة مكشوفة السقف عبر صحراء خالية لا يتخللها سوى الصبار وخط من المباني العالية والغامضة في الأفق- مع الجملة الافتتاحية في الكتاب: «كنا في مكان ما من أنحاء باسترو على طرف الصحراء، حينما بدأ تأثير المخدرات يتمكن منّا». يزيل طومسون الستار الرقيق عن الأخلاقية الجدية باستبدالها بالفكاهة الخادعة، بالإضافة إلى رسوم ستيدمان الكاريكاتورية العجيبة، هكذا، يمكن للمرء في البداية أن يعتبر الكتاب كوميديا تدور حول رجلين يخوضان في ثورة غضب عارمة مدفوعة التكاليف تغذيها المخدرات عبر الصحراء. لكن، وكما تكشف رسومات ستيدمان، إن الواقع المروّع تحت سطح فيغاس البلاستيكي اللامع مخبوء، فهناك فساد وانحطاط، وانتشار للثقافة المتعفنة والقيم المضللة. قد يبدو في رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» أن الحلم الأميركي ميت في البداية، لكن طومسون، لم يقل إن هوراشيو كان «مدفوناً»، بل قال إن هوراشيو «أصيب بالجنون بسبب المخدرات»، كما أنه لم يصرح بأن قيمه بالية، والمقصود هنا هو حال الحلم الأميركي، بل صوّر هذه القيّم على أنها جاءت ملتوية ومقلوبة رأساً على عقب. ديوك لا يرى أن الحلم الأميركي ميت، إنما يراه مشوهاً، بعيداً من تلك المُثُل المُحرفة التي ينادي بها. بيد أن الحلم الأميركي موجود فعلياً، يقبع في مكان سبق وتواجد في ديوك: سيرك مجنون، جوّ ماجن وصاخب، مليء بالألوان الفاقعة والضحك الهستيري بالإضافة إلى حيوانات ترتدي الأزياء وأناس يطيرون في أراجيح من الأعلى. «بدا متفاجئاً، ثم قال: هل وجدت الحلم الأميركي؟ أجبت: «في هذه البلاد؟ أومأت، ثم قلت: نحن الآن نجلس على عصبه الرئيسي. هل تذكر تلك القصة التي أخبرنا بها المدير عن صاحب هذا المكان؟ كيف كان يريد الهرب دائماً والانضمام إلى السيرك عندما كان صغيراً؟ طلب بروس زجاجتَي جعة إضافيتين. نظر ناحية الكازينو للحظة ثم هز كتفيه وقال: نعم، أفهم قصدك. ثم هز برأسه قائلاً: ذاك اللقيط، أصبح يمتلك السيرك الخاص به الآن، ورخصة للسرقة أيضاً. صحيح، إنه النموذج المثالي. قلت: بالتأكيد، إنه هوراشيو ألجر الصرف، بجميع عاداته». لم يكن الحلم الأميركي ضائعاً، بل كان محققاً، ومكتملاً. إنه الحصن الذي هندسته الرأسمالية، بنته وشيدته وأخفت ما يقبع وراءه، في صورةٍ مُضللة، قشرتها ملمّعة، مثيرة ومغرية، فيما محرّكه في واقع الحال، هم وحوش مفترسة أنيابها طويلة جاهزة للعض. ما كان ضائعاً في المقابل، هو حلم العقد المنصرم، روح التمرد، حقبة الوعي المتزايد وأحلام الخلاص والفسح التطهيرية. وجّه هانتر طومسون سهامه النقدية إلى الثقافة الأميركية المضادة لأنها انغمست في الاستهلاك الرأسمالي، غرقت في لاس فيغاس، فأخفقت في تجسيد ما نظّرت له وباتت جزءاً لا يتجزأ من مجتمع كانت يوماً ما لا تنتمي إليه إطلاقاً. شخصية ديوك، بكل ما تحمل من رمزية، هي الدلالة الأمثل للمزاوجة التي تحققت بين حلمين: الحلم الحقيقي في التغيير الذي تبنته الثقافة المضادة بوجه الحلم الأميركي المستبد. هي كشف صريح وفاضح عن ذلك «الحلم» الكاذب، ثم إن رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» هي جنازة مفتوحة للثقافة المضادة التي اجتاحت أميركا في النصف الثاني من القرن الماضي. إن ديوك هو رجل من الطراز العتيق عالق في واقع السبعينيات المخيب حيث تم التخلي عن تلك الدعوات المثالية والاضطرار إلى قبول حقيقة أن «تقدمية» فترة الستينيات قد انتهت. مصير ديوك، أي هانتر طومسون، هو إعلان صادح لهزيمة جيل بأكمله، ووداع حزين لعقد صاعق كان اسمه «الستينيات».