يمكن اعتبار أن الفن السابع يعود منذ بدايته الى مغامرة التجريب. مع جورج ميلييس (1861 – 1938) مؤسس المونتاج، الذي دفع تقنياته التجريبية إلى أبعد حدود، بدأت تظهر قدرة الكاميرا والاستوديوهات على تخطي المحدودية وتجاوز القواعد المعتمدة. ولكن في زمن بات فيه الفيلم الروائي النابع أساساً من تجارب ميلييس هو النموذج الواحد المتّبع قد ننسى أهمية التجريب، ونتناسى أنه جذر السينما. في مرحلة تاريخية معينة، حيثما أصبحت السينما خاضعة لسلطة السوق وبات الفيلم منتجاً قابلاً للاستهلاك يرضخ لشروط العرض والطلب، كان الاحتجاج على هذه السلطة فعلاً نادراً. لكنّ التاريخ لم يسلم من المتمردين على السائد، من مخرجين رفضوا الانصياع للشكل الذي أسَر السينما في قفص المألوف، أي الجاهز والمعلب والقابل للاستهلاك، أو بلغة سيجون سوزوكي «المنطقي». سيجون سوزوكي (1923 – 2017) كان واحداً من هؤلاء المخرجين المتمرّدين، والوحيد الذي تجرّأ على ممارسة قوله الصادم والفظّ: أنتج أفلاماً لا معنى لها، وهي تعني أنه ينتج سينما لا تذعن لمنطق أبناء جيله الذي ساد وهيمن.
نبذة عن سيجون سوزوكي
نعلم عن الكثير من الموجات السينمائية التي احتلّت مكانة هامة وشكّلت انعطافاً في مجال صناعة الأفلام. ولكن حينما يأتي الموضوع عن السينما الآسيوية، وتحديداً اليابانية، نلاحظ إلى حد كبير تغييب لسياقها وأسماء روّادها والاكتفاء ببعض الأسماء التي لمعت مثل أكيرا كوروساوا وياسوجيرو أوزو وكينجي ميزوغوشي. ولكن هل نعلم أن السينما الأميركية الحديثة التي نتابعها ونحبها لكونها غير منصاعة لقوانين هوليوود ونموذج التعليب، خصوصاً تلك المتمثلة بأعمال كوينتن تارانتينو وجيم جارمش، استلهمت طابعها الفني وأسلوبها من الياباني صانع أفلام «درجة ثانية»؟

رسم (فرانسوا الدويهي)

سيجون سوزوكي أتى عن طريق الخطأ إلى عالم الشاشة. رحلة المخرج الياباني السينمائية لم تكن هادئة على الإطلاق. غاص سوزوكي في صناعة الأفلام الترويجية لكنه ما برح أن شقّ مساره الخاص ليؤسس لاحقاً ما أصبح يعرف بالسينما المستقلة في اليابان. سيرته الذاتية متعثرة، حافلة في الإخفاق، لكنّ سوزوكي واظب واستطاع أن يخلق علامة فارقة في جمالية السينما. من ضابط في الجيش الإمبراطري الياباني، وناجٍ من الغرق في عمليتين عسكريتين (الأولى في تايوان والثانية في الفيليبين) ثم راسب في امتحانات الدخول إلى جامعة طوكيو، استطاع الأخير أن يلتحق أخيراً بأكاديمية «كاماكورا» لدراسة الإخراج والإنتاج السينمائي بعدما حفّزه أحد أصدقائه على التخصص في السينما. في رصيد سوزوكي أربعة وخمسون فيلماً. بدأ عمله أولاً مساعدَ مخرج، شأنه شأن أي متخصص يتدرّج في هذا العالم شيئاً فشيئاً، ليصبح في ما بعد، بفضل مساره الشاق والمضني، مؤسساً للموجة الجديدة في السينما اليابانية.
فيلمه الأول victory is mine، مهّد الطريق لمسيرة مهنية غير عادية، حافلة بالتقلبات والنجاحات وللكثير من النقد اللاذع. وقّع سوزوكي في بداية مساره على عقد طويل الأمد مع استوديو «نيكاتسو المختص» في صناعة أفلام «درجة الثانية» أي الأفلام الترويجية، لإنتاج أفلام ضمن جدول زمني ضيّق وميزانية محدودة، ليُطرد بعد سنوات طويلة تعسفياً من عمله لأسباب تتعلق باعتكافه عن اتباع مسار الاستوديو التقليدي ورغبته الخاصة في خلق أسلوب جديد لا يتوافق مع المعايير وشروط الاستوديو بل يقوم على نقيضها.

النزوع نحو اللامنطق
لقد أتقن استوديو «نيكاتسو» وصفة النجاح، تلك الخلطة السحرية التي أطّرت السينما وجعلت منها سوقاً استهلاكية تعامل الفيلم كمنتَج، وتعوّم المنتِج بدورها بأرباح خيالية. كان سيجون سوزوكي في «نيكاتسو» يتلقّى الأوامر، وقد كان مجرداً من حسّه الفني. عمل في الاستوديو وكأنه يشغر وظيفة أو كأنه جندي في الجيش. كان محظوراً عليه الالتفاف حول خط العمل المرسوم له، وكانت صلاحياته تنتهي بمجرد إنجاز مهامه المفروضة. كان محكوماً بحياة مهنية روتينية تشترط عليه إنتاج فيلمين في الأسبوع. روتين جعله يتمنى التخلي عن عالم السينما وهجره، لكنه في الوقت عينه، ساعده على بناء مهاراته وعلى تعزيز موهبته. فمن ذلك الروتين تعلّم سوزوكي اعتماد السرعة بتسجيل اللقطات: تصوير عدد محدود من المشاهِد ليسهل على نفسه مرحلة المونتاج بالإضافة إلى اكتسابه مهارة فائقة من ناحية التقنيات، وتلقّفه لأساليب جديدة، وخبرة واسعة في إدارة الممثلين. وتيرة الإنتاج السريعة تلك ساهمت بولادة مستمرة لأفلام الياكوزا اليابانية حيث قصص المافيا مستوحاة من أفلام الغاغسترز الأميركية.
عالقاً داخل هذه الصناعة، أراد سوزوكي التميّز عن الذين سبقوه ككيروساوا وأوزو. فقرّر عندها أن «يقذف القنبلة». بدأ عمله على فيلمه الشهير branded to kill. استغلّ وجوده، بالأحرى وظيفته، في استوديو «نيكاتسو» وبدأ بإنتاج عمله. خرق المعتاد وتدخل اَنذاك، في كل تفاصيل العمل بدءاً من الديكور وصولاً إلى اختيار الممثلين. آمن سوزوكي بأن خلق مساحة يتماهى فيها الممثل بالدور هو أحد أسرار النجاح. تلاعب سوزوكي بالسيناريو كما تلاعب بالضوء وفي الديكور في المشهد الواحد، فأصبح عالمه الخيالي غير منطقي ظاهرياً إنما يلتزم بالتسلسل الزمني الضمني للقصة. ومن هنا أتت عبارته الشهيرة «أنا أصنع أفلاماً لا تعني شيئاً».
لكن مثلما أن مقولته، في النهاية، تعني شيئاً فإن أفلامه أيضاً، تعني الكثير. لقد درجت العادة أن تكون الأفلام المصنوعة كأنها تسير وفقاً لأوزان الشعر وعروضه، لها بنية سردية معينة، تمتاز بحبكة، وتعرض في النهاية معنى واضحاً ومفهوماً. بدلاً من ذلك، اهتم سوزوكي بشكل الفيلم، بحركة الكاميرا التي ترسم المَشاهد، وباختلاف المعاني حسبما يتلقّاها المُشاهد. فقصته المسرودة لا تندرج في خانة السرد الكلاسيكي التي اهتمت به سينما ذلك الوقت حيث كان جلّ غايتها من الفيلم هو بيعه للمشاهد بغية التسلية، إنما ركنت في إطار تجريبي محض: رسم صورة عن عالم فوضوي، قاتم، وليس محاكاة الواقع بل سينما مفتوحة على التأويل، مليئة بالحركة، ومليئة برموز لم يعتد عليها الذوق ولا العين.
بالنسبة إلى سوزوكي كانت كل العناصر التي تكوّن «سينما ذلك الوقت» تحت مجهر الشك والنقد. لسينما باتت تقليدية، ذو إيقاع رتيب ونهايات معروفة، لا يموت فيها البطل كما هو المعتاد، أراد سوزوكي قتله. في وقتٍ كانت فيه الشخصية المافيوية اليابانية قوية لا تُقهر، أطلق سوزوكي فيلمه بأغنية تقول: «ارتجف القاتل النائم كما لو كان يرتجف من البرد». خياره غير المنطقي مقارنة مع المنطق السائد، ساهم بأن يكون هذا الفيلم نقطة مفصلية في حياة سيجون سوزوكي المهنية، ما أدى إلى طرده من عمله ومقاطعة كل استوديوهات اليابان له لمدة لعشر سنوات متتالية بسبب عدم استطاعة الجمهور فهم أفلامه «اللامنطقية». والحال أن ما قبلbranded to kill ليس كما بعده. والمعادلة هذه، لا تطال سيجون سوزوكي فحسب، بل أيضاً السينما كفن قائم بذاته. لكن ما يستوقفنا في مسيرة سوزوكي هو انسحابه عن المسار الآمن وقراره بالانعطاف نحو مغامرة جديدة استطاعت أن تنجح في تحقيق نفسها، لكنها في النهاية، تبقى مغامرة. اعتكاف سوزوكي عن تأدية الأوامر، وخلعه بزّةَ الجندي، جعلاه يقترب من نفسه كفنان، وأعاداه إلى الفنّ نفسه. لقد قرر سوزوكي الانفصال عن «وصفات المبيع» والقصص المعلبة، وخلق عوضاً عن ذلك، فيلماً يطرح التساؤل، ويبرز التناقض والطبيعة البشرية المعقّدة في الشخوص وفي قصة الفيلم نفسه.
branded to kill هو قطعة فنية مركّبة يحكي مواضيعَ متعددة، تجمع الجنس، والقتل، والحب، والتساؤلات عن الهوية والوجود. يرافق المشاهد في branded to kill هانادا، وهو قاتل مأجور أوكل بعملية وأثناء تأدية مهمته تنقلب الأمور عليه فيصبح بنفسه هدفاً لقاتل مأجور آخر. نتعرف في هذا الفيلم إلى شخصية هانادا وندخل في تفاصيل علاقته بزوجته، وعشيقته، ومشاكله الوجودية. قد تختلط الأمور لبضع لحظات على المشاهد. قد يتهيأ لنا ولو للحظة أن الفرنسي جان لوك غودار كان حاضراً خلال عملية المونتاج وقد وضع بصمته الشهيرة بالاستعمال المكثّف للـ«جامب-كات» (Jump Cut). أو قد نصدق أن سوزوكي استعان بفيلم un chien andalou للإسباني لويس بونويل واختار منه لقطاته العنيفة، عند اقتلاع العين مثلاً أو الرصاصة في الرأس، ليلصقها بمشاهد فيلمه كأنه كولاج أوروبي-آسيوي. كل هذه الخيارات الجمالية والتقنية جمعها سوزوكي في branded to kill وبدا للوهلة الأولى أننا أمام فيلم لا يمتّ بالمنطق السينمائي بأيّ صلة.
في هذا الفيلم قتل سوزوكي الفراشة والطير. رمزان مرتبطان أشد الارتباط بالثقافة والتقاليد اليابانية. علّقهما سوزوكي أجساداً ميتة في منزل شخصيته ميساكو، المرأة القدرية. في هذا الفيلم اعترفت المرأة القدرية بكرهها للرجال وأفصحت عن أمنيتها بالموت. في هذا الفيلم لم يتردد هانادا عن إظهار فيتيشيته لرائحة الرز المغلي واستمتاعه بممارسة المازوشية. في هذا الفيلم رائحة فرويدية واضحة، وفي هذا الفيلم يجد المشاهد نفسه يضحك بشكلٍ غير عقلاني ومبرّر لمشاهد مليئة بالعنف والقتل. إن التطرف إلى أقصى حدود هو عنوان الفيلم بشكلٍ مختصر. وقد عرّفه سوزوكي، بتعريفٍ مختزل، على أنه «لا معنى له» إطلاقاً، إذ عمد الياباني إلى نفي المعنى الواحد وإفساحه المجال للاختلاف أن يطوف، ناهيك بانقلابه على سلطة السائد وتخريب ثوابته.

البطل الذي يشبه مخرجه
يمكن اعتبار branded to kill أنه تجسيد للعمل الفني الذي يطابق حال صاحبه. هناك عقدة خفية تربط بين صانع الفيلم وفيلمه، إذ إن «branded to kill» هو ليس بسيرة ذاتية لكنه أشبه بمرآة تعكس مسار مخرجها وحاله. والانعكاس هذا يأتي من شخصية بطله هانادا. فالأخير ليس قاتلاً مأجوراً فقط. هو ليس «البرسونا» اليابانية المافيوية المطلوبة من قبل الجمهور عموماً والاستوديوهات خصوصاً. صحيح أن هانادا يرتدي بزّة القاتل ويحمل سلاحه لكنه تمثيل (representation) لذلك الإنسان العالق في إطار ما هو مألوف، بالأحرى ما هو مفروض عليه. هانادا هو انعكاس لسوزوكي، هانادا تحديداً، هو سيجون سوزوكي. ما كان من هانادا العالق في إطار واقعه، والمسجون في دورٍ فُرض عليه إلا السير على طريقة مخرجه سوزوكي -الذي كان بدوره، أسيراً لاستديو «نيكاتسو» ولسلطة السينما السائدة- من خلال التمرد ورفض واقعه وخلق مسار فردي خاص يبتكره بنفسه.
اختار سوزوكي نقض أساليب السينما التقليدية اليابانية، فأتى منازعاً وندّاً، كما جاءت المبارزة في إحدى المشاهد مع هانادا وهي ترميز أو تجسيد لصراع البقاء وفرض الذات دون الإذعان لإرادة الجميع. مات هانادا أو لم يمت في نهاية الفيلم، تبقى المسألة غيرَ مهمّة. المهم هو ما فعله سيجون سوزوكي في قتاله مع عصره، في مناكفته للروح الاستهلاكية، ونجاحه في توليد لغة سينمائية جديدة، استطاع أن يولد معها، وأن يلد بها سينما جديدة غيّرت معه الكثير.
بوجه ما هو منطقي، قرّر سوزوكي أن يسير نحو اللامنطق. أساساً، كان من غير المنطقي أن ينجو ذلك الضابط في الجيش الإمبرطوري الياباني مرتين من قعر المحيط. ومن غير المنطقي أنه استطاع أن ينتج لغة سينمائية متميّزة وقد جاءت على ضفة النقيض من تاريخ عمله الذي تمسّك به قصراً لإعالة نفسه. قصة سيجون سوزوكي، تشبه تلك الخاصّة بهانادا، تبدو برمّتها غير منطقية. لكن وسط هذا كله، تبدو لا منطقية سوزوكي أقرب إلى السينما وإلى عالمها، فقد قالت قولها بأنها قوّام الفن بحد ذاته، وأثبتت أنها أداة مقاومة بوجه سلطة السائد، والسرديات الرتيبة التي لا تعرف إلا البطل الذي لا يُقهر والأرباح الطائلة التي تُجنى جرّاء سرد قصته. لا منطقية سوزوكي خلعت الباب فعادت السينما إلى منزلها.