هذه المدينة مرعبة. المدينة تعيش الآن أشد أيامها رعباً، وفقراً، وقهراً سياسياً، وتطفو عليها نزعة الخلاص الفردي. إنها تأكل أبناءها فعلاً، لكن متى لم تكن المدينة مرعبة؟ كتب الشاعر عبد المعطي حجازي في نهاية الخمسينيات ديواناً عنوانه «مدينة بلا قلب». وفي الستينيات، حين وصف الروائي إدريس علي المدينة، وصفها على لسان أحد أبطال رواياته الذي سُجن عشر سنوات، ثم خرج فكتب إدريس علي: «تسكع، صدم، بُهت، وقف مكذباً ما يشاهده، هؤلاء ليسوا أهل مصر، الوجوه مُكشرة، الشفاه مُطبقة، البسمات باردة، النكات مبتورة، يتصادمون ويتشاتمون، يسبون الدين لبعضهم، لا بد أنه تأثير الغلاء أو الحرب، وربما ضغط العسكر الذين يحتلون الشوارع والمناصب، الناس يهرعون إلى بيوتهم مذعورين، ماذا حدث للمدينة الضاحكة؟ حلوة، كانت. بأم الدنيا وصفوها، تأكل أولادها الآن، السعار». إذا كانت تلك المدينة مُوحشة إلى هذا الحد على أبنائها، فكيف تنظر إلى الغريب فاقد المعايير؟
(ألكسندر إرمولاييف)

تتطلب المدينة مواصفات معيارية لتبتسم. لتضحك ضحكة عريضة مثلما يضحك بعض ممن يرتدون العقال، ذوو الكروش السمينة، والقروش الخضراء الكثيرة، أو كما يضحك الأجنبي الأشقر. المدينة مرعبة وهي الآن مليئة بالـ«سود»؛ تبتلعهم وتتماهى مع استعبادهم، يستعبد أبناؤها -المُتسعبَدين أصلاً- هؤلاء «السود»، والأخيرون لا يجرؤون على الكلام. فلتنزل اللعنات تباعاً على كتب التاريخ، وقنوات التلفاز، ومقالات الرأي في الصحف، ومحتوى اليوتيوب التثقيفي، السطحيّ منه، والمتعمق أيضاً إن زعم واحدهم بأنه قادر على شرح وطأة ما يحدث على من يعايشه. ليس السودان حميدتي والبرهان وبنادقهم وبيادقهم وبياداتهم. السودان قصة تفرّقت دماؤها بين القبائل. بين النازحين داخله والهاربين منه، هروب الخروج من الزنزانة إلى الغابة، والمحرومين من الدفن فيه. وجوهٌ لها حيوات لم يؤرخها أحد، ربما نجح الشاعر العراقي عدنان الصائغ، وهو ابن حرب أيضاً، حين وصف رعب الحرب قائلاً: «حياتنا المستهلكة في الأضابير/ والمشرورةُ فوق حبالِ غسيلِ الحروب». وكانت حياة مهند إحداها .
وصل مهند إلى القاهرة وفي جعبته نصف مليون جنيه سوداني، جمعهم بالدّين والكدح. وصل متحمّساً إلى شراء بضاعة من أسواق الملابس الجاهزة في مصر، ليعود ويبيعها في أم درمان، آملاً أن تكون تلك الرحلة «فتحة خير» عليه، في أن يمتلك يوماً محلاً للألبسة بدلاً من «تجارة الشنطة». لم تسعفه الأقدار بالطبع، نظراً إلى كونه مرهوناً بهذا الشرق، حيث مستقبله وأحلامه بل حياته برمتها تكمن في راحات حكامه. قامت قيامة السودان قبل ساعات قليلة من مغرب أحد الأيام الرمضانية، وكان مهند يفطر على مائدة رمضانية لأصحاب الخير في أحد الأزقة القاهرية الضيقة، وكان القدر رفيقاً به إذ ظل جاهلاً بالخبر إلى حين انتهائه من إفطاره. حين علم مهند أن سعيه ورزقه قد سوته قرارات الجنرالات بالأرض، أدرك أن لا عودة له إلى السودان حتى إشعار آخر. قرر مهند أن يُعيد البضاعة التي اشتراها إلى أصحابها ويستعيد ماله، ولكن أحداً من الباعة لم يرضَ بهذا الأمر، فبقيت تلك البضاعة في حوذته حتى هذه اللحظة.
قضى مهند أياماً في غرف أحد الفنادق المتهالكة، وحين نفدت أمواله، قضى أياماً أخرى مجاوراً مرحاض ذلك الفندق بعد أن عقد صفقة بسيطة مع صاحب المكان، تنص أن يعمل عنده مقابل الأكل والمبيت. لكن عزة نفس مهند أبت أن تقبل بذلك الوضع الموحش، وسرعان ما وجد عملاً في أحد الكافيهات الكبرى في منطقة برجوازية وسط القاهرة، في منطقة تتبرج بأضوائها ومبانيها -ذات الرونق الحداثي اِبْنُ ** مِعْمَارِيٍّ أنتجته العمارة الغربية والإماراتية- حيث يتقاضى 100 جنيه في اليوم، أي نصف ما يتقاضاه زملاؤه المصريون، ومدير الكافيه سمح له بأن يفترش البلاط يومياً حتى ينام. تلك كانت بشرى سعيدة! لن يضطر مهند إلى دفع إيجار غرفة، وسيحتفظ بالمائة جنيه كاملة، فيستطيع بالتالي أن يجمع ما يكفي من الأموال لكي يعود إلى السودان ويُقتل هناك، وهذا أفضل من أن يموت متجمداً على البلاط، غريباً ووحيداً، لا تبكيه عين.
كان من الممكن لمهند أن يعود في وقتٍ باكر ليحقق أمنيته بأن يُقتل في وطنه، غير أن القدر غفله مرة أخرى بقرار من الحكومة المصرية التي قررت أنه لن يعود السودانيون -وأي أجنبي آخر- المقيمون على أراضيها إلى السودان إذا كانت عليهم غرامات لم تسوّى. دائماً ما تتعلق تلك الغرامات بشؤون الإقامة التي لم تجدد، أو غيرها من الأمور البيروقراطية. كانت الحكومة السودانية تقبل بتسوية موضوع الإقامة آنذاك بالجنيه المصري، ولكنها باتت تطلب 1000 دولار، أي 55 ألف جنيه مصري، ما يعني أن على مهند أن يعمل لمدة سنة ونصف السنة من دون أن ينفق جنيهاً واحداً مع ضمان ثبات سعر الدولار في السوق السوداء، حتى يُوفر تلك الرزمة. لكن لم تكن تلك خطته من الأساس، ينوي مهند أن يعود إلى السودان «تهريباً». وتلك صورة أخرى للموت.
غير أن حال مهند أفضل من مواطنه المشهور في حي «الزبالين» المعروف بنُميري. الأخير يبدو كالهارب من الموت لكي يُكنّى باسم هذا الشخص الكريه على قلبه: الرئيس جعفر نميري. من علّمه الصنعة التي يمتهنها أطلق عليه هذا اللقب أو بالأحرى سمّاه به: النُميري، وذلك بسبب تلك الندوب على خده التي تشبه مثيلتها عند الرئيس نُميري. هو الذي كاد أن ينسى أن اسمه الحقيقي وحيد، امتلك ندوباً على وجهه من عادةٍ بائدةٍ لا يفتخر بها لأنه لم يخترها، اسمها «الشلوخ». وقصته في حي «الزبالين» هي فصل من يوميات «الحزن العادي» لأي سوداني في القاهرة. يعمل وحيد أو نُميري هناك في فرز القمامة وتكبيسها، وفي نهاية اليوم ينام في المصنع بجوار القمامة العملاقة. يتقاضى 80 جنيهاً باليوم وهي بالكاد تكفي أكله وشربه. حين تجرأ وحيد على طلب علاوة بسيطة على راتبه، لا تساوي الحد الأدنى من أجور زملائه المصريين، هدده المسؤول بالطرد، فآثر وحيد إبقاء الوضع كما هو عليه. بكل الأحوال، إنه متيقّن بعودته إلى وطنه، وبكل الأحوال إن وضعه أفضل من وضع صديقه كبّاش الذي يعمل حمالاً «عتالاً» وفقاً للطلب. يجد كبّاش العمل يوماً وربما لا يجده في اليوم الذي يليه، ولكي يوفر نفقات إيجار الغرف على نفسه، ينام في الحدائق العامة، أو أرصفة المحلات مستأنساً بالكلاب والقطط.
صعقني قصة النوم على الأرصفة وتكرارها يومياً وكأنها شيء عادي. بكل سذاجة سألت نُميري إذا كان الذي يندرج على قائمة اللاجئين لا يحتاج إلى تجديد الإقامة وتكلفتها، وتُصرف له نفقة شهرية ولو أنها ضعيفة جداً، ولديه تأميناً صحياً في أحد المستشفيات المتهالكة بوسعه أن يتردد عليها للعلاج مجاناً، فلماذا لا يحاول أن يستأجر في شقة مشتركة؟ فأجابني «لأني سوداني». عند تفكيك هاتين الكلمتين تتجلى قصة طويلة عن تاريخ -وحاضر- الاستغلال والاستثمار في المأساة. أصحاب الشقق يؤجرونها للسودانيين بطريقةٍ عشوائيةٍ وفظيعة. يؤجرونها بثلاثة أو أربعة أضعاف سعرها، وأصحاب الشقق المشتركة التي تؤجر غرفاً للمغتربين في القاهرة من ربوع مصر، يضاعفون أجر الغرفة على السوداني، لذا يختار أغلب السودانيين أرصفة الشوارع أو محل العمل في أفضل الأحوال على أن يستأجروا مكاناً.
يقول المثل المصري: «يا نحلة لا تقرصيني، ولا عايز منك عسل». يمتنّ نُميري للقاهرة لأنها منحته النجاة، بالأحرى فرصة أخرى للحياة، ولا يمكنه أن يكون جاحداً إلى حد أن ينظر بعين المساواة مع أصحاب البلد الذي هو ضيف عندهم، كما أنه ممتن لعدم المساواة تلك التي يعاني منها، لأنه حين يشترى «الهوى» من أحد بائعاته السودانيات في القاهرة، لا يرفعن أسعارهن كثيراً عليه في المقابل.
على أحد أرصفة المدينة، لا يبدو الموت جامداً بل سيناريو خيالياً، وهو أبعد من الموت برصاص الحرب الأهلية في السودان. في ديسمبر 2013، توفّي بهنس. كُتب في تقرير وفاته أنه مات برداً وجوعاً بعد أن عُثر على جثمانه على أحد أرصفة حي الدقي الحافل بالسودانيين، وأدرج اسمه في خانة المجهولين في مشرحة لمدة يومين إلى أن تعرف عليه أحد أصدقائه أخيراً. قبل وفاة بهنس بعامين، لجأ الشاعر السوداني إلى القاهرة، هارباً من حطام حياته في فرنسا، ليُقيم معرضاً تشكيلياً للثقافة والفلكلور الأفريقي، لكن ذلك لم يشفه من حالة الاكتئاب، إذ ظل متشرداً في شوارع المدينة لمدة سنتين بلا مأوى، ولا عمل، بيته الشوارع، وأصدقاؤه كل رواد المقاهي من المثقفين، وطعامه كان ما تجود عليه المطاعم التي ينام أمام بعضها. ظنّ الكثير من رواد مقاهي المثقفين التي ارتادها بهنس أنه مختل عقلياً أو أنه «درويش». وحين حاول أحدهم إدخاله إلى مستشفى الأمراض العقلية، رفضت إدارة المستشفى طالما أنه ليس هناك من إقرار موقّع من قبل أهله على تسليمه، حتى لقى «ابن السودان» حتفه في المدينة. في عام 1958 وقبل 55 عاماً من موت بهنس نعى الشاعر عبد المعطي حجازي في ديوانه «مدينة بلا قلب» كل موتى الرصيف، الغرباء، قائلاً: «وأقبلت ذبابة خضراء/ جاءت من المقابرِ الريفية الحزينة/ ولولبَتْ جناحها علي صبيٌ مات في المدينة/ وما بكت عليه عين / الموت في الميدان طنَّ/ العجلات صَفَّرت، توقفتْ/ قالوا: أين مَن؟ولم يجب أَحَد/ فليس يعرف اسمه هنا سواه/ يا ولداه/ قيلت، وغاب القائل الحزين/ والتقت العيون بالعيون/ ولم يجب أحد/ فالناس في المدائنِ الكبري عَدَد/ جاء ولد/ مات ولد».