عندما حلّ المساء أخيراً بعد نهارٍ حافلٍ أمضاه يزيّن شجرة الميلاد، وقف الطفل على الكرسيّ الصغير، ووضع النجمة في مكانها الصحيح، على رأس الشجرة. كانت عائلته ترمقه بنظرةٍ دافئة، فراحوا يصفقون له، وكلبه القابع بجانب المدفئة يمدّ له لسانه، يلهث فرحاً به.عندما تلتفت إلى المقلب الآخر، عندما تحدّق في عالم الجنوب، فكل تلك المشاهد الهوليوودية ستضمحل وتزول بل ستبدو مستفزّة. سترى هناك مشهداً مغايراً للـ«شجرة» ولرمزيتها إن من حيث صمودها أو من حيث دلالتها. ستراها مُقطّعة أو محروقة أو مرمية على طرف الطريق. فأشجار عالم الجنوب تطاردها فؤوس أبناء عالم الشمال، يقتلعونها من جذورها ثم يزرعوها في صالوناتهم لكي تكون «شجرة العيد»؛ الشجرة التي يجد طفلهم فرحته في تسلّقها وتزيينها.


لكن في عالم الجنوب، فإنّ الطفل لا يستحق اعتلاء الكرسيّ الصغير ووضع نجمة فوق شجرة الميلاد، بل يكفي أن يزيّن تابوته الذي سيدخل إليه بعد قليل، أو أن يجد حفرة واسعة قليلاً تتسع لأفراد عائلته الذي سيدفنهم فيها واحد تلو الآخر. على طفل عالم الجنوب أن يعيش تحت الحصار. عليه أن لا يعتاد على أحضان والدته. عليه أن يكبر ويشيخ قبل تجاوزه العاشرة من العمر. عليه أن يرى الأشلاء تتطاير أمام عينيه. عليه أن يعمل في استخراج «الكوبالت» في الكونغو، أن يستشهد وأحلامه في فلسطين، أن يعرف الجوع في اليمن، والفقر في سوريا وفي لبنان.
للشجرة رمزية في هذا العالم. لاخضرارها حضور، إنها الحياة بأفضل تجليّاتها. إذا كان المرء في صحراء قاحلة، في رحلةٍ مضنية، فإنه يشعر بنبض الحياة ما إن يرى شجرة النخيل، حتى ولو لمحها في الأفق البعيد. سيعرف حينها، أن حضور تلك الشجرة إنما هو دلالة على وجود المياه، ما يعني أن الحياة عادت لتسري في عروقه من جديد. تأتي مناسبة عيد الميلاد هذه السنة والعالم صحراء قاحلة، لا اخضرار في الأفق فالعالم على صفيح ساخن. تأتي هذه المناسبة حيث الكثير من الأشجار تُقتلع من جذورها، وحيث البشرية تشهد أكثر الفصول توحّشاً من قبل من يدّعي «التحضّر». الأنظمة «المتحضّرة» ومنظرّوها الذين يعملون بخدمتها، هؤلاء الذين يعتلون المنابر ليخبروننا عن الاحتباس الحراري ومآلاته، يحرقون العالم بأسره، وقد حوّلوا الأوطان إلى جحيمٍ. لم تقف «الشجرة المُحرّمة» في الجنّة سداً منيعاً أمام وحشية «المتحضّر» الذي فتح باب الجحيم على الأرض في أي حال.
وجحيم عالم الجنوب من نوع خاصٍ، لا تشكّله الحرائق الكبيرة وتغمره النيران فقط، بل تزيّنه القنابل أيضاً. عندما ينشط عقل «المتحضّر» يخترع أقذر أنواع الأسلحة، وما الفوسفور الأبيض إلا واحداً منها. هذه المادة الكيميائية التي تصل درجة حرارتها إلى نحو 815 درجة مئوية عندما تتعرض للأوكسجين بعد انفجار القذائف، تسبب حرائق واسعة في الأحراج، وتلوّث المياه الجوفية. أما في حال تعرّض الإنسان لها فتسبّب له حروقاً مؤذية ينجم عنها تشوّهات والتهابات قاتلة.
«المتحضّر» الذي يسكن عالم الشمال، وليس بعيداً، ها هو... يمكنك إلقاء نظرة سريعة للتعرّف إليه: إذا لم يتعمّد حرق أشجارنا فإنه يُهدي طفله المدلّل في كل عامٍ شجرة لم تحترق بعد من بلداننا، لتكون حطباً يتدفأ عليه مع عائلته. إنه العالم الذي نعيش فيه، المنقسم «شمالاً» و«جنوباً»، حيث أشجاره غير متساوية، أشجاره منقسمة طبقياً؛ هناك أشجار تستحق أن تكون معلماً سياحياً، وهناك أشجار يقطعها ذلك الذي لا يعرف سوى لغة الفأس حتى ينصبها كتمثالٍ ويزيّنها في منزله، وحتى يتدفأ على حطبها مع عائلته. ونحن، فلسنا سوى دمى رخيصة يحطمها ذلك الطفل الواقف على كرسيّه الصغير كلما غضب، لأنه لم يطل رأس الشجرة لكي يضع عليها نجمته.
فكل عام وهم بخير.