بين يديك أيها العالم جيش من العنصريين الذين ترعرعوا في أحضانك، وقد نضجوا، وأطلقتهم علينا. بين يديك أيها العالم خرج وزير الاحتلال وقال لنا: إننا نقاتلكم أيها الحيوانات البشرية. قالها على مسمعك أيها العالم، وقد حاز على تأييدك ورضاك. نحن من رأينا قدوم رؤساء الدول إلى إسرائيل ودعمهم المطلق معنوياً واقتصاديا وعسكرياً، جاؤوا حتى يباركوا لها ويهنِّئوها على المجازر التي ترتكبها بحقّ الأبرياء. نحن من كنّا شهوداً على محرقة وإبادة بحق الآلاف. كنا شهوداً على تحوّل المستشفيات إلى سجون، والمدارس إلى مدافن. شهود على تحوّل الطلاب إلى حفّاري قبور بدلاً من دكاترة ومهندسين وحقوقيين. شاهدنا بأمّ العَين كيف تُحجب الشمس جرّاء غبار القصف.
(من صفحة حساب «Nakbasurvivor» على انستغرام)

فضلاً عمّا حدث في سنوات الاحتلال، بتنا على موعد يومي، وعلى مدار الساعة شهوداً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي. كلّ محرّم دُنّس. كلّ ما هو ممنوع خُرقت حرمته. كلّ قانون خُرق. قصفت إسرائيل مستشفيات ومدارس هي من «المُفترض» أنّها أماكِن آمنة. قتلت إسرائيل كل «مفترض»، قتلت كل «معقول». إسرائيل، وبدعم غربي، تقتل كل يوم الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وبنود الأمم المُتحدة، أيّ إنّ الغرب يُطلق النار على شعاراته، على عقله، على ما «يفترض» أن يكون قانوناً عامّاً، ممنوعٌ خرقه وتدنيسه. ونحن ومع مشاهِد الأشلاء، والألم الذي يخرج من تحت الركام، نخزّن صمتاً ووجعاً، وبين أكتافِنا رأس لا يقوى على استيعاب ما يرى ولا على تصديق حقيقة العالم الذي نعيش فيه. في أذنينا يطنّ صوتٌ أشبه بلحن الموت.
لقد قال لنا العالم قبل 7 أكتوبر: «من بعدي الطوفان» فكان ردّ المقاومين بالطوفان الأقصى. والطوفان إذا حلّ فهو جارف، والطوفان في قاموس المعاني يعني الفيضان العظيم، السيل المغرق، الماء الغالب الذي يغشى كل شيء. أيّ ما كان كثيراً أو عظيماً، إذ يطغى على غيره. وفي السابع من أكتوبر حلّ الطوفان وقد طغى على غيره، طغى على الطغيان الممارس لعقود. سيل جارف أغرق العالم ببحر أكاذيبه. عندما يحلّ الطوفان لا ينجو إلا من يلحق بركب السفينة. وأهل غزة ومقاوموها بنوا لنا سفينة من الصمود بوجه سعار الطغاة. سفينة فيها نزل الغربال إلى العمل. وقد طاف الحق على الوجه وبانت كل الأكاذيب، والشعارات الواهية التي تلطّى خلفها دعاة الإنسانية أخذها الريح.
«وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة» (العهد القديم / سفر التكوين 12:7). «وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل سماء» (العهد القديم / سفر التكوين 19:7). يقدّم لنا العهد القديم تصوّراً لأسباب «الطوفان العظيم». فقبل الحديث عن سفينة ونجاة، «ورأى الرب أنّ شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأنّ كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم» (العهد القديم / سفر التكوين 5:6). «فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت». (العهد القديم / سفر التكوين 17:6). لا يمكننا غض النظر عن أنه لا يوجد على وجه الأرض تقريباً من لا يعرف قصة الطوفان العظيم. وسواء أكان مؤمناً بها أم لديه رواية مغايرة عنها، فهي عبرة قديمة قدم الإنسان، حتى أنها وردت في أدبيات قديمة تعود لتاريخ ما قبل الميلاد، وخصوصاً في ملحمة جلجامش القادمة من بلاد الرافدين. جميع الروايات تعترف بأن الطوفان حدث لسبب محدّد وواضح: شرّ البشر الذي تعاظم حتى لم يعد من الممكن التعايش معه. والكيان الإسرائيلي هو هذا الشر الذي لا يمكن التعايش معه. كيان مسعور لا يشبع من الدم، وحش لا تثنيه كلّ صرخات الوجع والأشلاء المتناثرة هنا وهناك. ووجب التذكر أنه قبل 7 أكتوبر بخمسة وسبعين عاماً، استباحت إسرائيل الأراضي، وقتلت الفلسطينيين، ودمّرت البيوت، وأحرقت الطبيعة، وسرقت الموارد. تاريخها عائم بوحشية لا تقارن مع قصص الرعب وسيَر مصاصي الدماء. إنّ «شر الإنسان قد كثر على الأرض» فكان الطوفان الأقصى، الذي ضرب عمق هذا الكيان، بل ضرب العالم برمّته. وحتى أولئك البعيدون عن النطاق الجغرافي لهذا الطوفان قد أصابهم ما أصابهم إزاء عظمة ردّ الفعل الفلسطيني على جرائم الاحتلال التي دامت لعقود، وعلى جرائم الاحتلال ضد الإنسانية جمعاء بعد طوفان الأقصى، إذ صار وصمة عار في تاريخ الأمم كلّها التي تكاتفت لتقف في صف هذه المجازر. وسيزهر هذا التأثير ولو بعد حين، ولن يكون هنالك من هو بعيد عن تأثير الطوفان الأقصى.
«رفع الأنوناكي مشاعلهم
حتى أضاءت الأرضَ ببريقها.
إلا أنّ ثورة حدد بلغت حدود السماء،
أحالت إلى ظلمةٍ ما كان مضيئاً،
وقام بتحطيم الأرض كما تحطَّمت الجرة.
عصفت الريح العاتية يوماً كاملاً،
بعنف عصفت و[…]
أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب،
حتى عَمي الأخ عن أخيه،
وبات أهل السماء لا يرَون أهل الأرض» - ملحمة جلجامش.